لماذا انتفاضة الجامعات الاميركية خطيرة على إسرائيل؟
لماذا انتفاضة الجامعات الاميركية خطيرة على إسرائيل؟
روزيت الفار-عمّان
لم تشهد ساحات الجامعات الأمريكيّة ومحيطاتها الخارجيّة حراكاً احتجاجيّاً لدعم قضايا خارجيّة كالّذي يحدث الآن، منذ ستّينات القرن الماضي؛ حين انطلقت الاحتجاجات وتوسّعت؛ للمطالبة بوقف حرب فيتنام ورفض نظام التّميّيز العنصري ضدّ السّود وفي جنوب إفريقيا؛ مؤكّدة، في كلا المطلبين، على وجوب احترام حقوق الإنسان والمساواة. وكان لتلك الاحتجاجات تأثيرات عميقة على المجتمع والمشهد السّياسي الأمريكي والعالمي، وأحدثت تحوّلات جذريّة في قضايا مهمّة كقضايا الحقوق والعدالة.
فهل “للانتفاضة الطّلّابيّة” الدّاعمة للحق الفلسطيني القائمة الآن في أشهر الجامعات الأمريكيّة وأعرقها؛ أن تفرض على الإدارة الأمريكيّة إعادة النّظر في سياساتها الخارجيّة الخاصّة بدعمها للحكومة الإسرائيليّة في حربها على غزّة؟
ماذا يعني أن تشارك هارفارد وكولومبيا وماساتشوستس وييل وجورج واشنطن وغيرها من الجامعات في الثّورة الطّلّابيّة؟
جامعة هارفارد Harvard الجامعة الأهليّة الّتي أُسّسها القس البريطاني جون هارفرد عام 1636، السّبّاقة في نشوء هذا الحراك منذ أن شنّ الاحتلال حربه الشّرسة على غزّة في 7 أكتوبر الماضي، هي الجامعة الأولى عالميّاً في حصدها لجوائز نوبل بمختلف التّخصّصات، إذ نال، حتّى الآن، 161 من الباحثين والأساتذة والمدرّسين فيها على هذه الجائزة. للجامعة إمكانات ضخمة جعلتها أكبر وأهم الجامعات الأمريكيّة. تُقدّر مِنحُها ب42 مليار دولار وقيمة أوقافها ب52 مليار دولار أي ما يفوق اقتصاد 120 دولة مجتمعة. تكلفة الدّراسة فيها عالية وقبول الطّلبة انتقائيّ وشروطه صارمة. جلس على مقاعدها ثمانية رؤساء أمريكيّين، منهم باراك أوباما الأكثر شهرة، و188 مليارديراً على قيد الحياة، أحدهم، بيل غيتس، مؤسّس مايكروسفت، أحدى أكبر شركات الكومبيوتر.
وخلفها بالمرتبة الثّانية؛ جامعة كولومبيا Columbia الأهليّة بحصدها لِ100 جائزة نوبل. من بين طلبتها 29 رئيس دولة، بالإضافة لشخصيّات سياسيّة واقتصاديّة أمريكيّة وعالميّة، وقامات فكريّة متميّزة كالمُفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد والّذي عمل بالجامعة من 1963 وحتّى وفاته 2003. وهي الّتي تجري على ساحاتها الآن أهمّ الثّورات الطّلاّبيّة الدّاعمة للحقّ الفلسطيني.
أمّا ييلYale ، فهي المصنّفة كإحدى أفضل 10 جامعات أمريكيّة ومن أهمّ الجامعات البحثيّة على المستوى العالمي وثالث أقدم مؤسّسة علميّة للتّعليم العالي الّتي تركّز في خدماتها على توسيع ونشر ومشاركة المعرفة.
ماساتشوستس Massachusetts (or U Mass) الّتي لها خمس مقرّات موزّعة على مدن الولاية وتشرف على جامعة مفتوحة على شبكة الإنترنت. الأولى عالميًّا بمجال التّكنولوجيا والبحوث العلميّة. تخرّج منها شخصيّات عالميّة بارزة وآخرون فخريّون مثل نيلسون مانديلا مناضل جنوب إفريقيا وزعيمها الأكثر شهرة.
وهناك جامعات مهمّة أخرى يخرج طلاّبها بالألوف للاحتجاج وللدّعوة لوقف الحرب على غزّة كجامعة نيويورك وكاليفورنيا وجورج واشنطن وهي الّتي أطلقت اسم “انتفاضة” على ثورتها.
إنّ أهميّة ورمزيّة ومكانة هذه الجامعات، هو ما أثار الرّعب بداخل إسرائيل وجعل نتنياهو يخرج ويدين هذه الاحتجاجات، وخصوصاً في جامعة كولومبيا، الّتي تحدث قلقاً لديه وتعتبرها إسرائيل بأنّها تشكّل خطراً استراتيجيّاً يهدّدها للأسباب التّالية:
- أنّ هذه الجامعة هي ذاتها الّتي انطلقت منها التّظاهرات الّتي قامت للمطالبة بوقف الحرب على فييتنام، ووقف ممارسات التّميّيز العنصري ضدّ السّود وتحرير جنوب إفريقيا بعد ستّينات القرن الماضي، وقد نجحت جميع تلك التّظاهرات بتحقيق مطالبها وأعلنت فييتنام انتصارها وبعدها جنوب إفريقيا؛ بالرّغم من التّضحيات الكبيرة والطّويلة والمؤلمة الّتي دفعتها الدّولتان؛ فربّما هذا يشكّل نذير شؤم لدى إسرائيل.
- أنّ لهذه الجامعة، كما لبقيّة الجامعات المذكورة، ارتباطات وشراكات استثماريّة وعلاقات وثيقة بالجامعات والشّركات الإسرائيليّة والعالميّة المهمّة؛ وفك وإنهاء تلك الشّراكات والعلاقات الّتي تدعو لها الاحتجاجات، يؤثّر سلباً على سير أعمال هذه الشّركات والجامعات ويؤذي مصالحها.
- تمثّل جامعة كولومبيا، كما الجامعات المذكورة، معقلاً للنُّخب الأمريكيّة إذ أنّ طلاّبها ليسوا من الطّبقة العاملة الكادحة، بل هم أبناء لأعضاء في الكونجرس ولوزراء ولشخصيّات سياسيّة واقتصاديّة كبار، ومن المُرجّح أن يحتلّ هؤلاء الطّلبة بعد تخرّجهم، مراكز ومناصب في صلب صناعة القرار الأمريكي، وهو ما يمنحهم امتيازات واسعة للتّحرّك ضدّ من قام ويقوم الآن بتهديدهم وإسكاتهم واعتقالهم والإساءة إليهم
- وكذلك فإنّ التحاق مجموعات من الأساتذة والباحثين الأمريكيّين والأجانب وأعداد كبيرة من الطّلبة اليهود المناهضين لسياسة إسرائيل، بالاحتجاجات وانخراطهم في تلك التّظاهرات، يزيد من مستوى فاعليّة هذا الحراك وتأثيره. إذ أنّ من يخرج للاحتجاج ليسوا فقط عرباً ومسلمين.
- تعبّر هذه التّظاهرات عن المزاج العام لجيل الشّباب، الّذي يشكّل مستقبل البلاد، والّذي تُظهر استطلاعات الرّأي العام؛ عن انقلاب وتحوّل غير مسبوق في انخفاض حجم تأييد هذه الفئة لإسرائيل. وكذلك تركيزهم على الشّعارات الّتي يستخدمونها وخاصّة “فلسطين حرّة من البحر إلى النهر”، الّذي لا يحصر القضيّة في الأراضي المحتلّة عام 1967، بل يتعامل مع إسرائيل كدولة مستعمِرة قامت على أنقاض شعب وفوق كامل أرضه.
*حسب مركز بيو للأبحاث الخاص بتوفير المعلومات حول القضايا والاتّجاهات الاجتماعيّة والقيام باستطلاعات الرّأي العام، فإنّ 60% من الشّباب الأمريكي من فئة 18-29 سنة، يساندون الشّعب الفلسطيني في معاناته، يقابلهم 46% لإسرائيل، وإنَّ 58% من الأمريكيّين يؤيّدون وجوب السّماح بحرّيّة التّعبير في معارضة السّياسات والممارسات الإسرائيليّة. تعكس هذه الأرقام بجوهرها قدرة الأجيال الجديدة على اختراق العمل السّياسي والإداري الأمريكي عند استمرار هذا النّوع من الثّقافة والمزاج.
**وفي سبيل وقف الاحتجاجات؛ تلجأ السّياسة الأمريكيّة لحجّة “معاداة السّامية” في تبريرها لحرب الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانيّة الّتي تنفّذها إسرائيل بحقّ الشّعب الفلسطيني، والّتي أصبحت مع وسائل التّواصل الإجتماعي، تصل لكلّ شخص في العالم وتظهر حجم الإجرام الممارس على هذا الشّعب. فالأمريكي، حتّى وإن كان ضدَّ حماس لكنَّ المزاج العام والنّزعة الإنسانيّة أصبحت تتغلّب على رأيه السّياسي الّذي لم يعد يحرّكه.
- أثبتت هذه الاحتجاجات عجز السّلطات عن السّيطرة عليها بالرّغم من إدخال الحرس الوطني واستخدام أساليب العنف لفضِّها الّذي بلغ حدَّ الصّعق والرّكل والسّحل لأساتذة ومسؤولين كبار ومن الجنسين، كذلك الطّرد والفصل لكلّ من ينادي بوقف الحرب. غير أنَّ هذه الممارسات القمعيّة الّتي توظّفها إدارة الجامعات في فضِّ الاحتجاجات، تخالف في تطبيقها؛ مبدأ الحقّ في حرّية التّعبير عن الرّأي، والّذي تضعه الجامعات الأمريكيّة ضمن استراتيجيّاتها التّعليميّة والتّربويّة وتعتبره أهمَّ شعاراتها. فهي تدعو نظريّاً لشيء وتخالفه عند التّنفيذ، الأمر الّذي أتاح مساءلة الإدارات عن سلوكها وسياساتها ومطالبتها بقياس ما تقوم به مقابل ما تقوله وقياس تصريحاتها إلى ما وضعته من نماذج قيميّة وحقوقيّة، وهو ما أجبرها على التّخلّي عن قناعها وكشف زيف حقيقتها. فلا حقوق ولا مبرّرات حين يتعلّق الأمر بإسرائيل.
- الاحتجاجات الحاليّة في الجامعات الأمريكية اليوم؛ احتجاجات نوعيّةلأنّها لا تتعلّق بقضيّة أمريكيّة -أمريكيّة فقط. فالأمر ارتبط بالإنفاق السّخي من أموال دافعي الضّرائب الأمريكيّين لتمويل أعمال تهجير وإبادة جماعيّة. وهذا الأمر لا يمكن أن يتمّ تجاوزه أو السّكوت عليه.
- أنّ هذه الاحتجاجات احتجاجات مُلهِمة، حيث أصبح يتبعها مصفوفة من الاحتجاجات من داخل أمريكا وخارجها. إذ بدأنا نشاهد خروجاً لعشرات آلاف الطّلبة الجامعيّين؛ في أستراليا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والقائمة تطول وتطول.
بعض من مظاهر هذه الاحتجاجات:
- تمثال جورج واشنطن، الرّئيس الأمريكي الأوّل يُلَفّ بالعلم الفلسطيني داخل الحرم الجامعي.
- رفع الآذان وإقامة الصّلاة بساحة الاعتصامات بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك.
- إلغاء حفل التّخرّج السّنوي لألوف الطّلّاب في جامعة كولومبيا وجامعة جنوب كاليفورنيا لانشغال السّاحات بخيام الاعتصامات.
- إلغاء الاتّفاقيّات والشّراكات الّتي عقدتها بعض الجامعات مع جامعات إسرائيل.
- الدّعوة لمقاطعة منتوجات الشّركات الدّاعمة لإسرائيل ووقف الاستثمارات وعقود العمل معها.
- حثَّت منظّمات العدل الدّوليّة ومؤسّسات حقوق الإنسان؛ إدارات الجامعات الأمريكيّة على حماية وتسهيل حقّ الطّلبة في التّعبير بالاحتجاج السّلمي، والّذي ثبت أنَّه بالفعل سلمي، واعتبار أيّ خطوة في ردعهم أو إسكاتهم أو مضايقتهم أو تهديدهم، انتهاكاً سافراً لحقوقهم.
- حاكم ولاية تكساس يوقّع قانوناً لحماية حرّيّة التّعبير في الجامعات؛ تزامناً مع هذه الاحتجاجات.
- ظهور العديد من الطّلبة اليهود على المنابر يستنكرون ممارسات إسرائيل ويدعمون الحقّ الفلسطيني.
فهل ستكون هذه الانتفاضات بداية التّحرير كمثيلاتها الّتي قامت من أجل فييتنام وجنوب إفريقيا؟ ثمّ هل ستكون هذه الاحتجاجات ملهمة للجامعات العربيّة كما هي للجامعات الغربيّة والعالميّة؟