ثقافة ومنوعات

حرب اللغة والمصطلحات ضدّ فلسطين

حرب اللغة والمصطلحات ضدّ فلسطين

روزيت الفار-عمّان

حرب اللّغة والمصطلحات. وكيف يتم توظيفها في الحرب على الفلسطينيّين وعلى حرب غزّة الآن؟

في سياق الصّراعات المتعدّدة القائمة على الصّعيد العالمي، وتحديداً، ما تعيشه منطقتنا الآن، تعتبر اللّغة والمصطلحات؛ إحدى أهمّ وأقوى وسائل التّأثير في الرّأي العام وتغييره نحو ما يجري من قضايا وأحداث. إذ يمكن لأيّ دولة أو جهة وفي أيّ مجال، استخدام “قوّة اللّغة”، عند فهمها وإجادة التّلاعب بمفرداتها، في اختيار خطاب وتكوين مصطلحات تخدم أهداف ومصالح هذه الجهة وتساهم في نشر رؤيتها وفرض أجندتها.

للماكينة الإعلاميّة دور مهم في فلترة هذه اللّغة وإعادة صياغتها بالشّكل الّذي تراه مناسباً، بغية خلق قبول جمعيّ -جعل الجميع يفكّر بالطّريقة ذاتها وكما ترغبهم هي أن يفكّروا- واختراق عقولهم والسّيطرة على وعيهم، عبر التّركيز على استخدام المصطلحات والخطاب عينهم، والتّأكيد على الاستمرار في تكرارهم في كافّة ما يُقال أو يكتب أو ينشر؛ سواء كان أخباراً أو صوراً أو تحليلات، دون أن يدركوا حقيقة ما تضمره تلك المصطلحات وذاك الخطاب من غايات؛ تخالف في مضمونها، الشّكل الّذي يحملانه.

تلجأ الدّول أو الجهات المعنيّة لذلك الأسلوب المخادع والمظلّل؛ تجنّباً لما قد يحمله الكشفُ عن حقيقتها من تداعيات وأبعاد سياسيّة وقانونيّة وأخلاقيّة تستحق المعاقبة واتّخاذ مواقف حاسمة نحوها.

باختصار، إنّ “حرب اللّغة” هي نوع آخر من الحروب؛ لا يقلُّ أهميّة عن الحروب التّقليديّة العسكريّة من حيث الشّدّة والقدرة على التّدمير، وأصبحت الآن تعتبر استعماراً رقميّاً وصناعة أيديولوجيا قائمة على الخداع والتّظليل والتّزييف والتّحيّز، لتمرير هذه الأيديولوجيا وحفظها في عقول أصحاب القضيّة بل في عقول العالم أجمع من داعمين ومعارضين لها، في خطوة سابقة لتجذيرها وتحويلها الى قِيَم وقوانين تتماشى مع ما تمَّ وضعه من غايات وأهداف، بشكل يجعل الشّخص يراها أموراً منطقيّة يقوم باختيارها طوعاً دون سيطرة أحد وتصبح عنده واقعاً يفرض ذاته ويستحيل اقتلاعه.

تحرص الدّولةُ؛ ومن خلال مجتمعَها المدني من مؤسّسات الإعلام كافّة والجامعات والمدارس ودور الوعظ والجوامع والكنائس، على توظيف خطابها ومصطلحاتها ذاتهم في جميع ما يقال أو يكتب.

في كتابه “الاستشراق” Orientalism والّذي يعتبر أحد أهمّ كتبه، يوضّح البروفيسور إدوارد سعيد، كيف أنَّ “للخطاب” أهمّيّة في التّأثير على المتلقّي والسّيطرة عليه. والخطاب هنا لا يعني “الحديث” -كما يتبادر لذهن القارئ في البداية- بل هو المادّة والمعلومات الّتي قام الغرب بجمعها عن الشّرق لتحديده. ويقصد بالشّرق؛ العرب والمسلمين والفلسطينيين.

لم يُنكر الغرب وجود شعوب بالشّرق. لكنّهم -كما وصفهم- “عرب وليسوا من البيض أو الأوروبّيين؛ فلا يستحقّون أن يعطوا أيّة قيمة”. وقدّم للعالم ما جمعه عنهم من روايات ومعلومات؛ بأسلوب استعلائي وفوقي، مسلّحاً بالقوّة الإمبرياليّة، الّتي يستمدّ منها عادة، استمراريّته وبقاءَه، متجاوزاً معناها الصّريح، بهدف تصغير هذا الشّرق وتسفيهه لتبرير سيطرته عليهفجاء خطابُه عنصريّاً مُتحيّزاً يصف علاقة الغرب بالشّرق كعلاقة قوّة وهيمنة، تكون الغَلبَة فيها دائماً للغرب.

وبحديثه عنهم، وصف المفكّر الألماني كارل ماركس شعوب الشرق بأنّهم “لا يستطيعون أن يمثّلوا أنفسهم وهم بحاجة لأحد أن يمثّلهم”. وهو الخطاب ذاته؛ الّذي لا زلنا كعرب ومسلمين، نتلقّاه ونسمعه ونعاني منه يوميّاً.

فالخطاب لدى إدوارد سعيد؛ هو ما يصنع الحقيقة -حتى لو مزيّفة- وليس الحقيقة ما يصنع الخطاب

جاء جورج دبليو بوش في 29 يناير 2002، وبعد أحداث 11 سبتمبر، بمصطلح “محور الشّر” وكان يعني به إيران والعراق وسوريا وضمّ إليهم لاحقاً دولاً أخرى. ثمّ مصطلح “الحرب على الإرهاب”. “القضاء على الدّكتاتوريّة وأسلحة الدّمار الشّامل” و”نشر الدّيموقراطيّة”.

تبعه بالعام 2003 غزوه للعراق. نلاحظ أنّه تمَّ طرح هذه المصطلحات واستخدامها قبل الغزو، كان الهدف منها إقناع العالم بأهميّة التّخلّص ممّا دعاه محور الشّر، معتبراً محاربته بمثابة حرب على الإرهاب وما يشكّله ذلك الإرهاب من تهديد وخطر على العالم وعلى الدّيموقراطيّة. كان الهدف الرّئيسي من الغزو، كما نعلم جميعاً، ليس إلّا احتلال العراق وسرقة موارده وثرواته.

فالخطوة الأولى إذاً كانت المجيء بخطاب ومصطلحات تمّت هندستها بدقّة وبوقت مناسب للظّروف الّتي يعيشها البلد؛ تمهيداً لتنفيذ الخطّة اللّاحقة؛ ألا وهي “الغزو”.  

وكردٍّ عليه، قابله على الطّرف الآخر، وفي العام ذاته، مصطلح مضادّ؛ هو “محور المقاومة” -بمعنى مقاومة الهيمنة الأمريكيّة- والّذي ذُكر للمرّة الأولى في جريدة “الزّحف الأخضر”  اللّيبيّة.

 

كيف نجحت أمريكا في فرض خطابها على دولنا في زمن الحرب؟

لاشك أنّ أمريكا ومنذ البدء بفكرة تأسيس دولة لليهود، تعمل بمبدأ “فرّق تسد” Divide to conquer. إذ أنّها تجد قوّتها في إضعاف الآخر من خلال السّيطرة عليه وسلب إرادته والاستحواذ على ثرواته. وللأسف؛ وجدت لدينا كعرب ومسلمين، تربة ومناخاً ملائمين لزرع وإنماء الفتنة والشّقاق؛ سواء على مستوى أفراد المجتمع الواحد أو على مستوى الدّول، كي تحقّق غايتها. وكان لها ما تريد.

لنأخذ ما سُمّي “بالرّبيع العربي” الّذي صنعته أمريكا وحلفاؤها بحجّة نشر الدّيموقراطيّة ومحاربة الدّكتاتوريّة والاستبداد، حيث تمَّ خلاله إدخال العديد من مفاهيم التّفرقة الّتي تسبّبت بدمار بلدان عربيّة وإسلاميّة بأكملها وتمّت السّيطرة على أهم مصادر ثرواتها من غاز ونفط وآثار تقدّر قيمتها بمليارات الدّولارات، وذهبت ضحيّته مئات الآلاف بل ملايين من الأرواح وترك خلفه ويلات لا زالت شعوبنا تعاني منها حتّى الآن، كلّ ذلك كان تحت شعار نشر الدّيموقراطيّة.

لعبت أمريكا وحليفتها دوراً مهمّاً في التّشديد على قضايا الانتماءات الدّينيّة والطّائفيّة (مسيحي/مسلم، سنّي/شيعي/درزي،  أورثوذكسي/كاثوليكي)، والجغرافيّة (من منطقة الشّمال/الجنوب/الشّرق/الغرب) والسّياسيّة (يميني/ يساري/حر/متطرّف)إلخ. في عمليّة بثّ الفرقة والتّشرذم بين شعوبنا.

ومن خلال سيطرتها على قرارات حكومات دولنا الّذين بدورهم يسيطرون على شعوبهم، ضمنت أمريكا توصيل رسائلها وفرض أجندتها علينا مستخدمة أدوات الإعلام المتعدّدة والمختلفة لتحقيق غاياتها وأهدافها، من هذه الوسائل: قنوات التّلفزة والإذاعات والصّحافة وغيرها. حيث يعمل كلٌّ منها لصالح جهة داخليّة تابعة لجهة خارجيّة معيّنة يتلقّى منها التّعليمات والأوامر بما يجب أن يُنشر. على سبيل المثال لا الحصر، تقوم إحدى القنوات التّابعة لجهة معيّنة؛ باستخدام لفظة “شهيد/شهداء” لوصف من يفقدون أرواحهم بالحرب لأجل الله والوطن. بينما قناة تابعة لجهة مختلفة، تسمّيهم “القتلى”. فهي بهذه الحالة تهدف لتجريدهم من صفة “القتل ظُلماً في الدّفاع عن حقٍّ مشروع لهم ولشعبهم وقضيّتهم على يد عدوٍّ غاشم”. ممّا يؤدّي بنهايته لصدام بين النّاس وانشقاق وصراع. علماً بأنَّ كلّاً من تلك المحطّات والقنوات تملك جمهوراً كبيراً من المتابعين وتدّعي المصداقيّة والحياديّة وتقدّم نفسها على أنّها قناة حرّة.

 

أمثلة على مصطلحات ترتبط بحرب إسرائيل على فلسطين، ومؤخّراً على غزّة.

لنأخذ مصطلحات قديمة، مثل: أرض الميعادشعب الله المختار. عودة المسيح الثّانية. أتوا هنا بنصوص من كتابهم تتناغم مع مفهومهم الخاص حول حقّ الوجود والتّسلّط.

جميع تلك الجُمل والشّعارات كانت بمثابة انطلاقة لحرب المصطلحات، فهي توحي بالاستحقاق الرّبّاني وتجمّع المنفيّين وقانون حتميّة عودة اليهود وربط مجيئ المسيح بقيام دولتهم اليهوديّة على أرض فلسطين وتحرير فلسطين من سكّانها -بالرّغم من أنّهم كانوا يشكّلون الغالبيّة فيها-. وتغفل حق أصحاب الأرض الحقيقيّين.

حاول اليهود البحث عن صيغة تمكّنهم من إرضاء أمريكا والعالم مع ترك مجال لهم للتّحرّك نحو تحقيق أهدافهم. فهم حرصوا على عدم إطلاق لفظ “دولة” بين 1897 وحتّى أربعينات القرن الماضي وشدّدوا على فكرة “الوطن” أو“الملاذ”، وبعدها “الوطن القومي”، وكان هذا الأخير تعبيراً مُلتبِساً؛ تبيّن لاحقاً بأنّه كان يعني “دولة يهوديّة”.

يشار إلى أنّ الصّهيونيّة؛ ومنذ نشأتها كان هدفها وما زال خلق دولة يهوديّة لإسرائيل وعلى أرض فلسطين.

جاء مناحيم بيغن بالعام 1975 بمصطلح “حق إسرائيل بالوجود” بمعنى عدم حاجتها لأيٍّ كان للاعتراف بهذا الحق؛ سواء كان من الدّول القريبة أو البعيدة أو من الدّول القويّة أو الضّعيفة.

وبعد أحداث 11 سبتمبر، اعتبرت إسرائيل قمعها للفلسطينيّين إسهاماً منها في الحرب على الإرهاب بعد أن قامت بتشبيه المقاومة الفلسطينيّة؛ بتنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيّين.

ثم جاءت بمصطلحات مثل: “حقّ الدّفاع عن النّفس”. “معاداة السّاميّة”. “الجيش الأكثر أخلاقيّة” و”طهارة السّلاح”. كي تتيح للعالم وللإسرائيليّين؛ اكتساب الشّعور بالقوّة والهيمنة على العدو الّذي -برأيها- يجب محاربته، وإقناعهم بقبول جميع ما تقوم به لكون جيشها يتحلّى بالأخلاق ولا يستخدم سلاحه إلّا للدّفاع عن الحق، ولطمأنتهم بأنَّ ما تفعله بلادهم، مهما كان، أمراً أخلاقيّاً وعادلاً. لدرجة أنّنا أصبحنا نرى جنودهم يتلذّذون بمشاهد ضحاياهم الّذين قاموا بتعذيبهم وقتلهم، ويحتفلون ويقيمون الكرنافالات بعد عمليّات التّفجير والتّدمير والقتل والتّنكيل بكلّ غطرسة ووقاحة دون أيّ اعتبار لمشاعر الإنسانيّة الّتي يتحلّى بها جميع مَن سِواهم.

ووثّق إدوارد سعيد كيف أنّ الرّواية الإسرائيليّة أُسّست للتقليل من الشّأن والوجود الفلسطيني إلى جانب نكران حقوقه في الحياة والأرض والأمّة والتّاريخ.

وفي حربها الأخيرة على الفلسطينيّين في الضّفّة وغزّة، استخدمت إسرائيل مجموعة من المصطلحات مثل: “إعادة الانتشار”. “نقل السّكّان”. “عمليّات الإخلاء”. “العزل”. “الجدار الأمني” بدل “الجدار الخرساني العازل” الّذي يرتفع 8 أمتار ويفصل قرى عن بعضها ويطوّق أراضي الضّفة.

جميعها مصطلحات تحمل في ظاهرها معنىً عاطفيّاً يوحي بالإنسانيّة، غير أنّها بالتّأكيد، بعيدة عن ذلك كلَّ البعد، حيث لا يمكنها أن تهدف إلى تجنيب سكّان غزّة القتل والأذى، كما يتبادر للذّهن لأوّل وهلة، بقدر ما هي محاولة مبطّنة لتمرير خططها الإجراميّة من طرد وقتل وتهجير وتدمير ثمَّ إبادة.

كلمة “انتفاضة” والّتي استخدمها الفلسطينيّون لوصف ثورتهم السّلميّة، أصبحت تترجمها إسرائيل لدعوة إبادة جماعيّة بحق اليهود، متجاهلة عنصر عدم التّكافؤ بين طرفي الصّراع من حيث وجود جيش يمتلك أحدث الأسلحة مقابل أفراد مدنيّين سلاحهم، فقط، التّظاهر. كذلك ترى في كلّ من يدعو لوقف إطلاق النّار في غزّة شخصاً معادٍ للسّاميّة يطالب بإبادة اليهود. كما اعتبرت شعار “فلسطين حرّة من النّهر إلى البحر” أيضاً، مطالبة بإبادة اليهود. حتّى مجرّد كلمة أن تقول: “أنا فلسطيني” فهذه بالنّسبة لهم مطالبة بإبادتهم.

وقد تمَّ إجبار العديد من عمداء الجامعات الأمريكيّة المشهورة وأساتذتها على الاستقالة من مراكزهم، لمجرّد سماحهم لطلبتهم بالتّظاهر من أجل المطالبة بوقف الحرب في غزّة. وتمَّ فصل الكثيرين من الموظّفين والطّلبة الدّاعمين للحق الفلسطيني.

باختصار، هم يريدون إسكات الجميع نحو ممارساتهم مهما اتّصفت بالوحشيّة والإجرام، وصولاً للإبادة الجماعيّة للفلسطينيّين والتّخلّص منهم وإنهاء قضيّتهم إلى الأبد.

لكن؛ وكما قال المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، إنّ أيّ دولة أو ايديولوجيا حين تتمادى في وحشيّتها إلى هذا الحد، فهذا يعني بداية النّهاية.  وأنّ إسرائيل ليست فقط دولة بل هي مشروع استيطاني استعماري وما نشهده الآن هو بداية نحو نهاية هذا المشروع.

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago