افتتاحية

     فرنسا: ثمنُ الانحياز  واسبابُه

     فرنسا: ثمنُ الانحياز  واسبابُه 

 سامي كليب:

بين الغضبِ المؤقّت والموقف الاستراتيجي، فرقٌ كبير. وعدمُ التفريق بينهما، يدفع السياسيةَ الخارجيّة الفرنسيّة إلى فخٍّ جديد في الشرق الأوسط، يُضاف إلى فِخاخِ نكساتِها في دول الساحل الإفريقي ومنطقة المغرب العربي، ليضعَ علاماتِ استفهام حقيقيّة حول دورِها التاريخّي في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ ومكانتِها العربيّة والفرانكوفونيّة. فخطرُ الانحياز الكبير إلى إسرائيل على فرنسا أكبر بكثير منه على الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو المانيا وغيرها، نظرًا للروابط السياسيّة واللغوية والإنسانيّة والاقتصاديّة التي جمعت بين باريس وجنوب المتوسط وشمال افريقيا طويلاً، رغم ثقل التاريخ.

      إذا كان الغضبُ مُبرّرًا من الناحية الفرنسيّة، ليس بفعلِ الصدمةِ الوجوديّة التي أحدثَها هجومُ كتائب عزّ الدين القسّام في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، بل أيضًا لأنّ 35 فرنسيًّا قُتلوا في إسرائيل وعددًا آخر ما يزال في عداد المفقودين أو الرهائن، فإنّ إيصال هذا الغضب إلى حدّ اقتراح تحالفٍ دوليٍّ جديد ضدّ حماس، على أساس أنّ ما قامت به “عملٌ إرهابيّ”   ، والعماء المُطلق حيال ألاف الأطفال والنساء الذين فتك بهم الاحتلال، بدا مُستغرَبًا ليس في دول عربيّة ولا عند داعمي فلسطين فحسب، بل في داخل البيت الفرنسي نفسه، ووصل الأمرُ بنائبة رئيس الجمعية الوطنية، الاشتراكية فاليري رابو إلى حدّ وصف دبلوماسية ماكرون ب ” الكارثيّة” وقالت  :”في النهج الدبلوماسي أجد ذلك كارثيا. ومن حيث الشكل، لا يمكننا تقديمُ مقترحاتٍ بشأنِ تحالف دوليّ وعدمِ التحدّث عنه مع شركائِنا، فهذه ليست دبلوماسية جيدة”.

ثمّة خلل واضح في السياسة الخارجيّة الفرنسيّة الحاليّة، رغمَ الآمال الكثيرة التي عُلّقت على الوزيرة كاترين كولونا، نظرًا لخبرتِها الطويلة كناطقة باسم الرئيس الراحل جاك شيراك وباسم الخارجية ثم سفيرة في الاتحاد الأوروبي وغيره، وخبيرة حقيقيّة بشؤون المنطقة العربيّة من جنوبِها إلى شمالها، وثمّة كلامٌ كثيرٌ يُحكى عن تهميشٍ للخارجيّة لصالح الرئاسة، وعن تعديلاتٍ في طبيعة العمل الدبلوماسي وتركيبتِه والتي أغضبت سابقا مجموعة من الدبلوماسيّين الذين وصلوا إلى حدّ الاعتراض.

فهل يُعقل مثلاً أن تفقد فرنسا بسنوات قليلة في عهد ماكرون، مواقعَها في عددٍ من الدول الأفريقيّة، وتُضطر لمغادرة مالي وبوركينا فاسو والنيجر مؤخّرًا، وتشتبك دبلوماسيًّا مرّاتٍ عديدة مع الجزائر والمغرب وتونس، بعد أن كان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي قد ورّطها قبل سنواتٍ أيضًا بالفخّ الليبي؟ وهل يُعقل أن تفقِد ثقلَها الاقتصادي في افريقيا الغربيّة لصالح الصين وتركيّا، والمغرب، والجزائر، وغيرها؟ وهل يُعقل أن دولاً افريقيّة ذات علاقةٍ تاريخيّة مع فرنسا والفرانكوفونية في زمن الاستعمار وما بعده  مثل طوغو والغابون، تنضم كما غيرها الى مجموعة الكومنولث؟  

مُقابل هذه النكسات، طوّرت فرنسا علاقاتِها مع دول الخليج، وخصوصًا مع الإمارات والسعوديّة وقطر. فنجد مثلاً أنّ الإمارات العربية المتحدة صارت أكبر زبون لفرنسا في الشرقين الأدنى والأوسط (33% من الصادرات الفرنسية إلى المنطقة في عام 2022) وثالث أكبر مورد لها (12% من الواردات الفرنسية)، بعد المملكة العربية السعودية (39%) وقطر (20% من الواردات الفرنسية على التوالي). وبلغت التجارة الثنائية مع الإمارات (الصادرات والواردات) 6.9 مليار يورو في عام 2022، بعد 5.6 مليار يورو في عام 2021 و3.9 مليار يورو في عام 2020.

نذكر كذلك أنّه في خلال زيارة ماكرون إلى الإمارات العربيّة، نجح في بيعها 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال و12 طائرة مروحية “كاراكال”. ووصفت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي الصفقة بـ “العقد التاريخي”. وحاليًّا ثمّة تسريبات جدّية عن احتمال شراء السعوديّة سربًا من طائرات ” رافال” التي سبقتها إليها الإمارات ومصر وقطر.

باستثناء الدوحة، فإنّ هذه الدول جيمعًا لا يُزعِجُها  كلامُ ماكرون عن حماس المنتمية إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكنَّ الانحياز الذي بدا في الأسبوع الأول للحرب إلى جانب إسرائيل من قبل ماكرون وقسمٍ كبير من الاعلام الفرنسي، رغم صور المجازر وعمليات الإبادة الجماعية التي يرتكبُها جيشُ الاحتلال في غزّة، جعل الرأي العام العربيّ من المشرق إلى المغرب يضع فرنسا في السلة نفسها التي طالما وضع فيها الولايات المتحدة الأميركية وانحيازِها الأعمى للمُحتل وتجاهل إقامة دولة فلسطينيّة، والتعامي عن قهر الشعب الفلسطينيّ.

ماكرون يُصحّح الانحراف؟  

حاول الرئيسُ الفرنسيّ أن يعيدَ بعضَ الأمور إلى نصابِها مع دخول الحرب أسبوعَها الثالث، ويكفي أن نلقيَ نظرةً على تغريداتِه التي تُنشر باللغتين الفرنسيّة والعربيّة، لنفهم أنّ الرجُلَ شعرَ بالحاجةِ للعودةِ، ولو بخجل، إلى أصلِ المُشكلة، فراح يقول:” يجب أن نعمل اليوم على نحوٍ حاسم من أجل التوصّل أخيرًا إلى حلّ الدولتين: إسرائيل وفلسطين.”  أو:” يجب أن نبذل جميعًا ما بوسعنا من أجل تفادي التصعيد وإعداد مبادرة السلام والأمن والتصدّي لأسبابِ المشكلات التي نعيشها.” مُعلِنًا عن تقديم مساعدات لغزّة ومادِحًا دورَي مصر وقطر.

ما الذي تغيّر في السياسة الخارجيّة الفرنسيّة؟

الواقع أن مُشكلة السياسة الخارجيّة الفرنسيّة مُتشعّبة وبحاجة لأطروحة دكتوراه لشرح تقلّباتِها، لكن ثمّة 6 عوامل لا بُد من ذكرِها كي نفهمَ أكثر:

* أولُها أنّ ماكرون الذي جاء من نجاحاتٍ تجاريّة ومصرفيّة وماليّة كبيرة إلى الإليزيه، يُعطى أهميّة كُبرى للعقود والصفقات التجاريّة والمصالح الاقتصادية الفرنسيّة، رغم أنّ ذلك لم يُحسّن صورتّه في استطلاعات الرأي الداخلية.

* ثانيها أنّه منذ الاعتداءات الإرهابية الشهيرة على نيويورك في العام 2001، ثمّة شيءٌ جذري طرأ على ساسة وإعلام ومفكّري ومثقفي فرنسا، وصار كثيرون منهم يربطُون عامًا بعد عام، الإسلام بالإرهاب، ويصفُون ايّ مقاومة للمُحتل بالإرهابية، وذلك في تناقض صارخ مع ما كان قائمًا في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي حيث كان يُنظر إلى فلسطين كحركة تحرُّرٍ من نظامٍ عنصري على غرار ما كان قائمًا في جنوب افريقيا.

* ثالثًها دفعت باريس ثمنًا باهظًا في علاقتِها مع واشنطن وتل أبيب بعد رفض الرئيس الديغولي جاك شيراك الموافقة على الاجتياح الأميركي-البريطاني للعراق، ووصل الأمر بآرييل شارون إلى حد اتهامِ فرنسا بأنّها باتت الدولة الأكثر عنصرية ضدّ إسرائيل ودعا اليهود لمغادرتِها. ومذّاك ورغم إعادة الجسور بين باريس وواشنطن، والاتفاق في حينه على إخراج الجيش السوري من لُبنان، وتطويق ما وصفاه ب ” الهلال الشيعي” وتطبيق القرار 1559، فإنّ باريس قلّما ذهبت بعدها إلى حد معارضةِ واشنطن في أي حربٍ شنّتها في الخارج.

* رابعُها أن تأثير اللوبيات المؤيّدة لإسرائيل على قطاعات ملحوظة من الاعلام والمال والمصالح، ساهم في جعل أيّ انتقادٍ لإسرائيل يُعتبر معاديًا للسامية، وهو ما أقرّته لاحقًا بعضُ القوانين. وهذا ما دفع وزير الخارجية الفرنسيّة السابق رولان دوما إلى حدّ القول في كتابه Coups et blessures:” إنّ الإسرائيليين يفعلون ما يشاؤون في فرنسا، ويحرِّكون الاستخبارات الفرنسية “. وها هو الكاتب الفرنسيّ الشهير آلان غريش يقول:” لم نشهد منذ 1967 حملة إعلاميّة مسعورة تأييداً لإسرائيل كتلك السائدة حالياً، وليس من المبالغة القول إنّه من الأسهل نقد السياسة الإسرائيلية حتى في إسرائيل أو في الولايات المتحدة ممّا في فرنسا”. لكن هذا لا يمنع أن ثمّة اعلاميّين ومثقفين وأحزابًا وتياراتٍ شعبيّة ما زالوا يعتبرون فلسطين قضية تحرّر، حتّى لو خفت الصوت كثيرًا. 

* خامِسُها تنامي الهجرات في العقدين الماضيّين، وارتفاع لهجة الخطاب السياسيّ في الغرب ضدّهم وتحميلهم تعبات التدهور الاقتصاديّ أو الأمنيّ،  ربط هذه الهجرات بالاسلاموفوبيا، فحوَّلَ المهاجرين، بمن فيهم مَن يحملون جنسيات تلك البلاد، إلى مشبوهين كُلّما تحرّكوا نصرةً لفلسطين أو غيرها من القضايا العربيّة.

* سادسُها اتفاقيات السلام والتطبيع العربيّة مع إسرائيل، فهذه شجّعت ليس فرنسا فقط، بل الكثير من دول العالم على القول :” لن نكون مَلَكيّين أكثرَ من الملك”، فإذا كانت دولٌ عديدة طبّعت العلاقات مع إسرائيل قبل قيام دولةٍ فلسطينيّة وحلّ الدولتين، وإعطاء الشعب الفلسطينيّ حقوقَه، فلماذا تُطالَب فرنسا بأن تكونَ أكثر تمسُّكًا بذلك من العرب أنفسهم.

ولو أضفنا إلى هذا شعورًا غربيًّا عامًّا بخطرٍ وجوديّ حقيقيّ يلفُ إسرائيل حاليًّا بعد ان كشفت الفصائل عن قدراتها وأسلحتها، وبعد أن دخل حزب الله وفصائل أخرى إلى جزء من المعركة، يُمكن فهم بعض الاسباب الفرنسيّة المنحازة لدولةٍ يعتبرُها الغربُ قاعدتَه المتقدّمة في الشرق الأوسط، ويراها “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة” ( وهذا مثير للإسغراب فعلاً) . 

مصالحٌ وحروب

إنّ المصالحَ الاقتصاديّة والسياسيّة والجيوسياسيّة، والتقارب الكبير مع واشنطن، أمورٌ جعلت فرنسا في فخاخِ صراعاتٍ وحروبٍ كُبرى كان يُمكن لها فيها أن تلعبَ دورَ الوسيط، لا أن تكون طرفًا، فهي الآن في عداوةٍ مع روسيا وفي مشروعٍ غربيّ ضد الصين، وفي علاقات ضبابيّة أو متوتّرة مع دولٍ كُبرى في المغرب العربي، وفي عداوة مع إيران وسورية، وفي موقف حرج في أفريقيا … وفي تنافس كبير مع ألمانيا على زعامة أوروبا.. الخ.

وقد نذهب أبعد من ذلك ونطرح السؤال التالي: إذا كان ماكرون يُريد تحالُفًا دوليًّا ضد حماس على أساس أنّها ارهابيّة، فماذا سيفعل لو وسّع حزب الله جبهة جنوب لُبنان؟ هل سيعتبرُه أيضًا إرهابيًا ويقطع نهائيًّا صلاتِ فرنسا به التي تعزّزت في السنوات الثلاث الماضية من أجل التوصّل إلى حلٍّ سياسيّ في لُبنان وانتخاب رئيسٍ للجموريّة. (وهو ما اغضب مرارًا خصومَ الحزب في الداخل).

كانت تلك العلاقات قد وصلت الى مرحلة متقدّمة، دفعت موقع ” والا ” العبري إلى الكشف عن أنّ   ” وزارة الخارجية الإسرائيلية كانت قد استدعت نائب السفير الفرنسي لتوبيخه، في ما قام السفير الإسرائيلي في باريس بتوبيخ مسؤول كبير بشأن التوترات على الحدود مع لبنان، وان مسؤولين إسرائيليين كبار قالوا لموقع “والا” الإخباري، إن إسرائيل احتجت “على حقيقة أن فرنسا تبنت موقف الحكومة اللبنانية بالكامل، وأنها لم تكن على علم بترسيخ حزب الله في المنطقة الحدودية مع إسرائيل وإذا استمر هذا الأمر، فلن يكون هناك أي جدوى من مواصلة المفاوضات مع فرنسا بشأن مسألة لبنان”.

إلاّ فلسطين

تستطيع فرنسا أن تُبرّر أيّ سياسةٍ تنتهجُها في العالم، الاّ في قضية فلسطين اليوم، فالدولة التي بنت سمعَتَها الحديثة على مبادئ ” الحريّة والأخوّة والمساواة” تعرفُ في قرارةِ نفسها أنَّ ثمّة شعبًا يُكافح منذ 75 عامًا ليحصُلَ على دولتِه المُستقلّة ويحرّر أرضِه التي التهمتها المستوطنات، وأنّه يُريد أن يعيش بكرامةٍ…. وتعرف أيضًا أن حماس حديثة العهد بينما عذاب فلسطين سرمدي. وما لم تعُد فرنسا إلى دورِها السابق في التشديد على حلٍ سياسيٍّ عادل، ووقف المستوطنات وإقامة دولةٍ فلسطينيّة، فهي لا شك ستفقدُ دورَها في منطقةٍ يعود إليها الأميركي بأساطيلِه، ويخترقُها الصيني والروسي بأفكارٍ ومبادراتٍ تبدو أكثر قُربًا للرأي العام العربي من مواقف الأطلسيّ.

أهمية فرنسا التاريخيّة أنّها سعت للتمايز عن الولايات المتحدة الأميركية في الصراع العربي-الإسرائيلي وحاولت أن تلعب دورَ الوسيط مرارًا. فماذا ستكون عليه أهميتُها لو فقدت هذا الدور؟ الرأي العام العربي يختلف حول حماس ودورِها، لكنه حتمًا لا يختلف بشأن حق الشعب الفلسطيني الطبيعي والأخلاقي والإنساني بأن يعيش كبقيّة شعوب العالم بحريّة وكرامةٍ واستقلالٍ وسيادة. 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button