مقال اليوم

عن التعب الذي يبني الأمم!

عن التعب الذي يبني الأمم!

عقيل سعيد محفوض

يمثل التَّعَب، قوة أو عاملاً مُؤَسِّسَاً للمجتمعات. إذ تتشكل المجتمعات بعد أن “تتعب” من العنف والصراع والحرب. قد تبدو الفكرة غريبة، لكنَّها تصيب معنى وهدفاً مهماً. إذ إن “التعب” و”الإجهاد” اللذان يحلّان بالجماعات والتكوينات المتصارعة، يمكن أن يدفعا لتغيير الرؤية حول المعنى والقوة، وبالتالي التحول من الحرب إلى السياسة، ومن الصراع على السلطة والدولة إلى الصراع في ظل أو أفق سلطة ودولة. بهذا المعنى تكون الدولة بالمعنى الحديث هي –في جانب منها- “نتاج التعب”!

والتعب مادي ورمزي، بمعنى أن الصراع والحرب يستنزفان الموارد المادية والبشرية، وتسبب  الحرب حالة دائمة من التهديد، وتمثل تحدياً لنظم القيم الاجتماعية والسياسية وغيرها، التي يحاول أصحابها حشد الناس والموارد، وتقديم إجابات حول معنى ومبرر الصراع الذي لا نهاية له، ولماذا لا يمكن تجاوزه؟ وبمرور الوقت تصبح قيم وعناوين الحرب أقل قدرة على الجذب والاستقطاب أو يفترض ذلك.

والواقع أن انتصار أحد الأطراف في الصراع لا يمثل نهاية أو حلاً، إذ انه لا يحقق الأمن والاستقرار، كما لا يعطي المنتصر شرعية أو قبولاً مستمرين، وبالتالي يمكن أن تتجدد المواجهة من جديد، وقد ينقلب الحال، ما ان تسنح الفرصة للخصوم بذلك. ما يعني استمرار العنف أو التهديد به بلا توقف.

هذا يُذكِّر بفكرة “الحالة الأصلية” لدى توماس هوبز، “حرب الكل ضد الكل”، أو حرب الجماعات والتكوينات المنقسمة أو المصطفة في خطوط صراع وتحالفات الخ وقد يكون “التعب” و”الإجهاد” و”الاستنزاف” أحد دوافع البحث عن أساليب لـ “تدبير” الحياة بعيداً ما أمكن عن الحرب والقتال. وبالتالي التحول من الحرب إلى السياسة، بما هي إدارة وتوزيع للموارد المادية والمعنوية، بتعبير معروف لـ ديفيد إيستون عن علم السياسة، في أفق مجتمع ودولة، أي “ابتكار” السياسة والدولة بالمعنى الحديث للكلمة، كما سبقت الإشارة.    

عندما يحل التعب، تكف الجماعات عن عدِّ الصراع والحرب “قَوَّامين” على التوافق والسلم، والقطيعة على التواصل، ويصبح مد الجسور أفضل من تدميرها. ومعلوم أن أول ما تستهدفه “حروب الأخوة” هو الجسور ونقاط الاتصال والوصل الاجتماعي والاقتصادي والجغرافي وحتى القيمي والرمزي. وما أشد اقتتال الأخوة إن وقع!

والان، أليس التوصّل إلى “نقطة توازن” بين مختلف الأطراف بما يساعد في بناء مجتمع ودولة تحقق مصالح الجميع، أفضل من مواصلة الصراع وتدمير الموارد والإخفاق في تلبية الأهداف وتحقيق المصالح، والضعف أمام فواعل الخارج؟

قد يكون “التعب” من الحرب والطائفيَّة والتدخلات الخارجيّة والفساد والاستبداد … هو المشترك الأهم لدى شريحة متزايدة من الناس في المجتمعات والدول العربيّة، الأمر الذي يمكن أن يعزّز مدارك فواعل الفكر والاجتماع والسياسة وغيرها حول ضرورة القيام بـ”تسوية تاريخيّة”، تمثل استجابة لرغبة الناس المتعبين، بالبقاء والعيش الكريم، في أفق مجتمع ودولة قابلين للاستقرار والاستمرار.

المشكلة، أنّ المجتمعات في المنطقة العربية مُجْهَدَة، لكن عوامل المواجهة والصراع لا تزال نشطة، ثمة “دورة سيزيفية” للصراع والحرب، داخل المجتمعات وفيما بينها، أنماط متداخلة ومتوالدة من العنف والصراع، و”إعادة إنتاج” مستمرة للحرب. يحل التعب، ولا يحل السلم. وقد يتراجع إيقاع العنف، إلا أنّ إيقاع الحلول/التسويات لا يزال ضعيفاً وباهتاً، بل إنّ الموقف في عدد من المجتمعات والدول لم يغادر تقريباً نقاط انطلاقه الأولى، ولحظاته البدئيَّة، ولم يفكك صواعق تفجيره. وتبقى مجتمعاتنا مفخخة بالعنف والموت.

قد يحلّ التعب بفواعل الأزمة والصراع، إلا أنَّ الأثمان عادة ما يتم تحميلها للمجتمعات والأفراد، فيما تستخلص فواعل القوة والسلطة والهيمنة الموارد من الداخل وتتلقى الدعم من الخارج، وتعيش على المنافسات والرهانات والصراعات والمخاوف. هذا ما يعيد إنتاج ديناميات الحرب، ويعطي فوعلها قدرة على الاستمرار.

عندما “يتعب المحاربون” أو تضعف همتهم، من المفترض أن تتراجع فواعل العنف وقدرتها على استقطاب وحشد المزيد من الموارد للصراع والحرب. ومن المفترض أن تظهر فواعل الفكر والسياسة ممن يبحثون عن حلول أو تسويات أقل عنفاً، ويصبح الصراع “للسياسة بالسياسة”، وليس “للسياسة بالعنف والحرب”.

في المنطقة العربية والشرق الأوسط، داخل المجتمعات والدول، يبدو أن ما يكسبه طرف من الأطراف على حساب الأخرين، لا يمكن أن يكون إلا مقدّمة لنزاع آخر أو حرب أخرى. يتعلق الأمر بمجتمعات ودول الصراع والحروب، كما هو الحال في ليبيا واليمن وسورية والعراق والسودان والصومال. وهذا ينسحب –بكيفية أو أخرى- على المنطقة عامة.

فهل يمكن أن يفضي “التعب” الذي تعاني منه مجتمعات وشعوب هذا المشرق الجميل إلى تغيير في الرؤى والمدارك والأولويات حول الحياة والسياسة والمجتمع والدولة، الأنا والاخر، الأنا بما هي مجتمع ودولة، والاخر بما هو صديق أو عدو، وبالتالي التوصل إلى تسويات وحلول تاريخية تنقلها من الحرب إلى السياسة؟ سؤال كبير بحجم التعب الذي حلَّ بنا، وربما الأهوال التي لم تحلّْ بعد.

lo3bat elomam

Recent Posts

Nos amis les animaux, une histoire vieille comme le monde !

Nos amis les animaux, une histoire vieille comme le monde ! Nadine Sayegh-Paris Les animaux…

2 hours ago

La télécommande, l’arme silencieuse du pouvoir domestique

La télécommande, l’arme silencieuse du pouvoir domestique Nadine Sayegh-Paris La télécommande n’est pas qu’un outil.…

2 weeks ago

معلومات جديدة عن اغتيال نصرالله

الشرق الاوسط كشفت تقارير إسرائيلية معلومات جديدة عن اغتيال الأمين العام السابق لـ«حزب الله»، السيد…

2 weeks ago

Le 1er mai, une fleur, une histoire !

Le 1er mai, une fleur, une histoire ! Nadine Sayegh-Paris Tout a commencé au Moyen Âge,…

3 weeks ago

ترامب-نتنياهو بعد سايكس-بيكو، فهل من مشروع عربي؟

سامي كليب لم يخف بنيامين نتنياهو يومًا أطماعه. عرضها بالتفصيل في كتابه "مكان بين الأمم".…

3 weeks ago

Pâques : un kaléidoscope de traditions en perpétuelle évolution !

Pâques : un kaléidoscope de traditions en perpétuelle évolution ! Nadine Sayegh-Paris La fête de Pâques…

4 weeks ago