نائل مرزوقي وأشباحُ الذّاكرة الفرنسيّة
مرح إبراهيم
تزامنًا مع أيّام العيد الكبير (كما هو معروفٌ باللّغة الفرنسية)، تشهدُ فرنسا موجةَ غضبٍ واحتجاجٍ وشغبٍ، واسعة النّطاق، إثر مقتل الشابّ جزائريّ الأصل نائل المرزوقي، على يدِ أحد عناصر الشرطة في Nanterre، ضاحية من ضواحي باريس الشرقيّة.
يحتلّ الحدثُ عناوينَ الأخبار العريضة بحيثيّاتِه ومسبّباته منذ السّابع والعشرين من حزيران : مقتل شابّ يبلغ 17 عامًا من العمر، كان يقودُ سيارة “دون رخصة قيادة”، رفضَ الامتثال لأوامر شرطة المرور، فأطلقَ عليه شرطيّ رصاصةً اخترقت صدره. نُشر فيديو الحادثة المصوّر من أحد المارّة، فورَ وقوعِها، لتداوَله مواقع التواصل الاجتماعيّ، غافلةً وقعه على عائلة هذا الشاب ومحيطه، فالرأيُ العام لا ينتظر، على غرارِ الجدل السياسيّ الذي سرعانَ ما باشرَ بطرح مسألة توحّش المجتمع، وقضية الدّفاع المشروع عن النفس لرجال الشّرطة، وموضوع إحصاء عدد حالات رفض الامتثال للأوامر.
حدثٌ مفجعٌ آخرٌ، ينكأ جراحَ الماضي ويوقظ أكثر من ذاكرةٍ، ليثبتَ مرّةً أخرى أن شيئًا لم يتغيّر. فلهذه الأحداثِ سوابقٌ يعود أوّلها إلى السّبعينات والثمانينات، نتجت عنها La marche des Beurs (مسيرة منادية بالمساواة وإيقاف العنصريّة عام 1983)، وذلك بعد مقتلِ شابّ خلالَ مواجهة مع رجال الشّرطة في ضاحية من ضواحي مدينة ليون. لكنّ أحداثَ خريف 2005، تبقى أكثر الأحداث التي شهدتها فرنسا عنفًا، إثرَ مقتل الشابّين زياد وبونا في محوّل كهرباء خلال مطاردة بوليسية. حينئذ، صرّحَ نيكولا ساركوزي (الذي كان وزير الداخلية ) بأن الشرطة لم تكن تلاحقهم جسديًّا، لكنّ رواية الشابّ الثّالث، الناجي من الموت، خالفت تصريحات الوزير. على مدى ثلاثة أسابيع، عمّت الفوضى في البلاد، حتى أُعلنت حالة الطوارئ، للمرّة الخامسة منذ حرب الجزائر. نتجَ عن الأحداثِ إصابة 224 من عناصر الشرطة والدرك والإطفاء، توقيف أكثر من 6000 شخص من المشاركين بأعمال الشغب، اعتقال 1328 شخصًا، تضرّر ودمار 233 مرفقًا عامًّا وحرق أكثر من 10 آلاف سيّارة. قرّر وزير الدّاخلية بعدها تزويد الشّرطة بمزيد من التجهيزات، كما يشير بعضُ الخبراء السياسيين إلى أن النتيجة الأولى للأحداث، ضمن نتائج أخرى، كانت عسكرة الشرطة. في العام 2007، حُكم على الشرطيّين المعنيّين بتهمة “عدم تقديم المساعدة لشخصٍ في حالة خطر”، تم تبرئتهما في العام 2015، بحكم من القاضي الذي اعتبر أنّ كلاهما لم يكن في حالة وعي واضح بالخطر الجسيم والوشيك.
ما الذي تغيّرَ اليوم والتّاريخ يكرّر نفسه ؟
في ظلّ سطوة شبكات التواصل الاجتماعيّ، يعلو صوت الرأي العام من كلّ حَدَب وصوب ويُظهر صورة الانقسام أكثر من أي وقتٍ مضى، وكأنَّ الأزمةَ تعود لسبب واحدٍ فقط : يَرمي كلٌّ من الأطراف المسؤوليّةَ على الطّرفِ الآخر، ليعودَ الجدلُ إلى عقمه المعتاد وحلقاته المفرغة.
وسطَ الغضبِ العارم، يظهر رئيس الجمهورية داعيًا الأهل إلى المسؤولية ويشير إلى انطباعه بأنَّ بعضَ الشّبابِ يتقمّصون في الشارع أدوار الألعاب الالكترونية التي تسمّم عقولهم. أمّا أمّ الفتى الرّاحل، فتدعو إلى التهدئة، قائلة “أنا لا ألوم الشرطة، بل ألوم من قتل ابني. إنه خطأ رجل وليس خطا منظومة. مضيفةً “رأى طفلًا عربيّ الشكل فأراد أن يسلب منه الحياة. أنتظر أن يدفع ثمن ما فعله بابني وأن يكون العقاب بقدر ألمي”.
تعمّ أعمال الشغب والنهب والحرق في الشوارع، فيفتح اليمين المتطرّف الجبهة من جديد في الخطابات والتظاهرات : في 30 حزيران، تنشر صحيفة Libération مقالًا حول راديكاليين من اليمين المتطرف يحلمون بالانزلاق إلى حرب أهلية عنصرية، مع صورة تظاهرٍ لهم في مدينة Annecy ينادون فيه بوقف جنون الهجرة، بعد حادثة العمل الإرهابي ضد الأطفال في الثامن من حزيران الماضي.
أينَ يكمنُ الخلل ؟ في النزعة السلوكيّة العنيفة لدى فئة من الشّرطة وقوّات الأمن ؟ أم في تزايد ظاهرة الانحراف لدى الشباب، لاسيّما المنبثق من “العائلات المهاجرة” ؟ هل هوَ الخطاب السياسيّ عمومًا ولاسيّما الراديكاليّ، أم هي “الانفصالية” من جهة والسعي لمكافحتها من جهة أخرى ؟ إنه مرضٌ سياسيّ ـ اجتماعيّ مُستعصٍ، لسوء تشخيصه وتعدّد أعراضه وتنوّعها، فلا يمكن لأي مرض أن يشخَّص من عرضٍ واحد.
الخطابُ السياسيّ لم يتغيّر، لا بل فقد من غموضِه على مرّ الزمن، ليزدادَ احتقانًا في السّنوات الأخيرة. غذّى ذلك انتشارُ الحركات الأصوليّة والعمليّات الإرهابيّة وربطها بالإسلام، ليزداد التقوقع والتشنّج لدى الطّرفِ الآخر. أمّا عن مسالة الانحراف وسوء إدارته، فيرفض البعض ربط ما حدث بقلة الدعم للأحياء المعنيّة بالانحراف، معلّلين ذلك بضخ الدولة المليارات منذ عقود لدعم هذه الأحياء، ملقين بالمسؤولية على “سياسة الأحياء” التي “تعزز الانفصالية والتراخي والإفلات من العقاب وقلة مسؤولية الأهل”. لكن هل حدَّ ذلك من واقع النبذ والتهميش الذي يعيشه الشباب داخل الأحياء وخارجها ؟ لعلّ غياب لغة حوارٍ حقيقية وسيطرة النبرة التصعيديّة في الخطابات والآراء السياسيّة المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها تكرّس الأحكام المسبقة والتعميميّة لفئة من المجتمع ،وتعزّز عمقَ الشرخ، تمامًا كما يعزِّزُه التّعبير عن الغضب بالتخريب والحرق والنّهب، الذي لا يخلّف سوى الخراب ويسهم بتغذية حجة اليمين المتطرف، بتأجّج الرّاديكاليّة ورغبتها في التّصعيد لتشريع وجودها… فنعودُ مجدّدًا إلى ضيق الحلقة المفرغة.
نائل وقبله زياد وبونا، هم رموزٌ لجبهاتٍ ملتهبةٍ منذ عقود وعقود، تسكن لفترة من الزمن ثم تعود نوبتها كلّما أدى العنف إلى سلب الأرواح بين فعلٍ وردّ فعل. هي الجبهاتُ التي لم تُغلق يومًا على حلّ عميقٍ لأزمةٍ مزمنة. لن تعودَ الحياةُ لمن رحلوا، لكنّهم رحلوا كي يكونَ في ذكراهم عبرةٌ لمن يعتبر.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…