آخر خبرثقافة ومنوعات

مسلسل “مع وقف التنفيذ”،دعوة للحياة رغم المآسي والحروب

 ياسمين نبيل حناوي

واحد من أكثر الأمور إثارة للدهشة في رمضان الفائت هو استطاعة مسلسل (مع وقف التنفيذ) أن يؤكد لنا مجدداً بأن علم النفس هو الأساس المحرّك لكلّ تحركاتنا في هذه الدنيا. وهو ما يؤكد قول الكاتبة وعالمة النفس الأمريكية (باربرا دي أنجيليس) إن ما يسمح لنا كبشر بالبقاء نفسياً على قيد الحياة على الأرض بكل ألمها ومآسيها وتحدياتها هو الشعور بالهدف والمعنى؛ وبذا – وإن تعطّل تنفيذ الكثير من الآمال وتأجلت العديد من الأحلام – فبمقدور حياتنا أن تستمر وفق الطريقة التي سنرسمها نحن ونختارها نحن في المكان والزمان المناسبين بعيداً عن التفاؤل أو اليأس المطلقين.

إن قانون الاحتمالات هو السائد في هذا المسلسل تماماً كما الواقع المحتوي على نماذج بشرية فيها من الخير الكثير ومن الشر الكثير أيضاً. لا ملائكة ولا شياطين. الأكثر طيبة على الأرض المعمورة قد يرتكب خطأً يدمّر به كلّ ما حوله ويؤذي أقرب الناس إليه دون وعي أو شعور؛ والأكثر شرّاً قد يتراجع في اللحظة الأخيرة عن جريمة كان بإمكانها أن تخلّصه من نهاية وخيمة. فلسفة مميزة اتسّم بها نص الكاتبين يامن الحجلي وعلي وجيه استندت على مراقبة حثيثة لخطوط حياتية من حولهما تُرجمت بإخراج وتمثيل لم يشهدا سوى الإعجاب والثناء؛ الأمر الذي يدلّ على ارتفاع ذائقة المشاهدين وفهمهم العميق للرسائل الأخلاقية المقصود إيصالها في حلقات العمل.

لعلّ واحدا من أهم مسببات النجاح هنا هو صناعة ملف الشخصيات بموضوعية وذكاء وصبر، ناهيك عن الاهتمام العالي بالتفاصيل فليس هناك حشو أو إطالة أو عشوائية أو لا منطقية؛ بل تمّ الاعتماد على وضع لبنات العمل حجرة حجرة وصولاً إلى صرحٍ محكم لا مجال لإسقاطه أو خلخلته وهذا ما يحصل عادة عندما تجتمع مقومات الشغف والإبداع مع الضمير الحي الذي لا يرضى لعملٍ أن ينجز بلا إتقان.

من الملفت بمكان النضوج الإخراجي للفنان سيف السبيعي الذي عمد إلى توظيف الكادرات والألوان والموسيقى بما يتماشى مع سيرورة الحكاية فخرج لنا بتحفة درامية ستضاف إلى الأيقونات السورية التي أُنتجت في السنوات الأخيرة؛ ولم يكن لهذا الأمر أن يُنجز بنجاح دون احتضانٍ إنتاجي عالي المستوى جاء بتوقيع الرائدين هلال أرناؤوط وأحمد الشيخ واعتمد على السخاء المادي لنصرة الفن وهو ما تحتاجه الدراما العربية بالعموم، وتفتقده العديد من النصوص الفريدة المنتظرة في طابور القبول؛ ولأنّ الأعمال التلفزيونية هي حصيلة مجهود جماعي بالأساس لا بد أن نُضيء على أداء الممثلين الذين تعاملوا مع الأدوار تماماً كما يتم التعامل مع لعبة البيسبول. جري لا متناهي مع استعداد حقيقي للفوز فحسب؛ إذ تألّف الفريق السوري من القامة عباس النوري الذي ظننت شخصياً بأنّه قد وصل إلى قمة النجومية ولكنه مع (فوزان فضل الله) بنى لنفسه قمة جديدة ارتفع نحوها مع كلّ مشهد أدى به دور انتهازي الحروب الباحث عن أي فرصة لجني الأموال بكافة الطرق الملتوية مستخدماً لسانه المنافق وعائلته ومعارفه بغية الوصول؛ وهذا ما يشابه أشخاص كثر في مجتمعنا السوري. هؤلاء الذين صعدوا إلى السطح في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

كما تضمن الفريق النجمة سلاف فواخرجي التي كانت وما زالت تعطي بدرجات عالية من الشغف والإبداع بغية نصرة الفن السوري وتصدره الشاشات؛ وكما كانت أحد أعمدة الارتكاز في السابق لبيت الفن العربي فهي اليوم المحفّز الرئيسي للاحتضان الجماهيري والنخبوي لأعمالها التي تشارك فيها بملئ الإحساس؛ مؤكدةً مجدداً على التلقف الكبير الذي يحصل مع الجمهور لعمل يتموضع اسمها في شارته ولو ضمن بطولة جماعية كالذي حصل مع (جنان العالم)؛ التي تحولت لحالةٍ ممتعة ومثيرة ومبهجة في آنٍ معاً. تثير الغضب من أفعالها السلطوية غير القانونية تارةً، وتخلق التعاطف مع برّها بأبيها وجهادها لإرضائه والاستقرار تحت كنفه تارةً أخرى.

يلاحظ من منظور علم النفس بأنّ فواخرجي تمكنت بمهارة من عكس اختلاجات الذات المضطربة بعيشها الفعلي لصراع جنان وتخبطاتها وتحمّلها للتعنيف الجسدي واللفظي الشديدين من أجل الوصول إلى غايتها؛ ومن ثم فقدانها لآخر أسلحتها الدفاعية فاعتمادها أسلوب الهجوم في طلاقها من الدكتور أديب الذي أدّى دوره الرائع فايز قزق، وانتقالها لمرحلة الكسب الأخير فالانتقام والتشفي وتبرير القصص السيئة بلا وعي منها وفق منظورها الخاص، وأخيرا وليس آخراً تبديل الحلفاء بجرّة قلم ومحاولة إشباع غريزة الأمومة لديها، ومن ثم الختام مع دمار نفسي كامل أوصلها للتصرفات غير الموزونة وبالتالي الهلوسة بما تحلم به بالفعل. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى مجموعة من المشاهد الأخاذة التي صنعتها بفرادة تفوق ما كُتب على الورق؛ وأهمها مشهد المرآة وضرب الذات وتشويه الوجه بلا رحمة من أجل صناعة فيديو الابتزاز، ومحاولة التدرب على حقن الإبرة القاتلة لزوجها الممعن في أذيتها، وشكرها الإلهي على تخليصها من هذا العبء، وعلاقتها مع القطة الملفتة بشدة، وبالتأكيد مشهد إطلاق الرصاص الافتراضي الأخير على أعدائها الأربعة وإلقاء القبض عليها وهي واقعة تحت تأثير مخدرات أفقدتها عقلها فطلبت الملاذ من رَجُلِها الحلم (أبيها) الشيخ رباح. وفي هذا الموضع من الضروري أن نسلّط الضوء على (الأنسنة) التي أكسبتها سلاف لجنان فنبذناها أولاً وأعدنا احتضانها بتعاطف كامل آخراً.

أما العملاق غسان مسعود فلقد قدّم لنا (حليم زاهر) في ملعبه على أرضه وبين جمهوره مُفنّداً الحالة التي آلت بسوريتنا بقلمه الذي يعتقد بأنه الصواب المطلق الساعي لإحقاق العدالة والاقتصاص من الجناة، وكذلك الجوكر فادي صبيح المتمسك بعادات أهل الشام الشرفاء والحامي لأسرته بمروءة رغم عناده غير المحمود، والمذهلات الثلاث حلا رجب وشكران مرتجى وصفاء سلطان. لقد وجدنا في كلٍّ من (أوصاف) و(سكر) و(عتاب) سيدة سورية جار عليها الزمان بشكلٍ ما فاضطرت لخوض مالم ترغب بخوضه وتعاطت معه وفق منظورها الخاص الذي اكتسبته من التربية أو الزواج أو الأمومة أو السفر لنرى بذلك صور متنوعة للإناث في بلادنا كانت نهايتهن مُرضية وفق رحلتها الدرامية في (مع وقف التنفيذ).

 وفي خط الضابط المُسرّح (عزّام) تلّمسنا – مع يامن الحجلي – ألم الدنيا كلّها المتمثل بخسارة العائلة ظلماً وعدواناً والسعي للانتقام من قنّاص الحارة، ليضطر في سعيه ذاك أن يعالج الظلم بظلم أكبر منه أحياناً فيتلوث بوحل الشر والظلمة مراراً ويعاني المرض الروحي وصولاً لنهاية النفق ب العقوبة المنصفة ل(سيف) السفاح الذي أوغل في طغيانه وأدى دوره ببراعة كذلك الأمر الممثل مصطفى المصطفى.

وممّا أضاف للعمل رونقه ولمعانه هو الافتتاحية مع العملاقة صباح الجزائري التي جذبت العقول والقلوب من الكلمة الأولى والفعل الأول فكانت أمّاً بحق كالوطن والضمير وكافة القيم الإيجابية، وأيضاً القديرة نادين خوري التي أضافت أسهمت في تفوق المسلسل بإحساسها المرهف وفهمها العميق للدور، ولا يمكن أن ننسى الحضور المبهج لشخصية (صافي) الذي اعتقد أن طيبته وانزوائه في عالمه الخاص وشهامته الحالية سيطمسان خذلانه في الماضي وهذا ما لم يكن له التحقق وفق قواعد العدالة والمنطق.

إذاً كُنّا أمام لوحة شعبوية تحمل شخوصاً غير مثالية تعرّضوا كغيرهم من البشر في العالم لظروفٍ واستثناءات حوّلت مسارات حياتهم ودفعتهم لاتخاذ قرارات صعبة ما توقعوا اتخاذها يوماً فسلكوا طُرقاً غير معبّدة وقدّموا تضحيات متنوعة. إنّها مجموعة أفلام في فيلم واحد، وضمن هذا القاموس المخلّد لمرحلة زمنية معاصرة لسوريا اختلفت معاني العديد من الكلمات والمصطلحات، فالشمس ليست دائماً جميلة، والفوز ليس النعمة الأخيرة، وكي نصل للدفء المنشود لا بد أن ندفع القضاة الكامنين في دواخلنا كي يوقفوا تنفيذ حكم الموت ويدفعونا بحب كي نواصل الحياة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button