افتتاحية
لزنبقة الوادي وعيد العمل في فرنسا هذا العام أريجٌ مُغاير
زنبقة الوادي وعيد العمل
سامي كليب
ها قد عاد الاول من أيّار /مايو. لا داعي للاستيقاظ باكرًا. إنّه عيد العُمَّال . منذ الصباح الباكر تنتشر الطاولات الصغيرة في الشوارع والأحياء والأزقّة الفرنسيّة.تنتشر فوقها باقاتٌ صغيرة من وردةٍ بيضاء. اسم الوردة “زنبقة الوادي”. يسمونها في فرنسا muguet .تُعرف في بريطانيا ب lily of the valley. شكلُها يُشبه الجرس المقلوب ورائحتُها ذكيّة.
وحدها هذه الزنبقة تدفع الشبّان الفرنسييّن للاستيقاظ باكرًا. يُهدونها للحبيبة او الزوجة او الخليلة او زميلة العمل. باتت زنبقة الوادي صنوًا لهذا العيد. تزرع البهجة منذ الصباح الباكر فيما نسبةٌ البطالة تُكدّر حياة اكثرَ من ٥ ملايين فرنسي. الرقم كبير لكنَّ العاطل من العمل في فرنسا يعيش . الدولة تؤمّن له مدخولاً شهريًا حتّى يجد عملاً. مع ذلك هناك فقراء.
الجميع يحتفل .العامل وربُّ العمل والذي لا عمل له. لا يسمح الفرنسيون لشيءٍ بأنّْ يُكدّر احتفالاتهم . يعملون طيلة العام لكي يحتفلوا في الأعياد والإجازات. لا همَّ عندهم لجمع مالٍ ولا همومَ طبابةٍ وتعليم . الدولة تتكفَّل بذلك. مع ذلك هناك فقراء ومهمومون.
طبعُ الباريسي ميَّالٌ إلى التأفُّف والنقّ. وحدها زنبقةُ الوادي تُنعش صباحّه. تُضيف الشمسُ كثيرًا من البهجة الصباحيّة فيخرج الفرنسيون إلى طاولات الزنبق. يلامسونها برفق. يشمّون أريجها ويُغمضون العيون.
تتعدّد الروايات حول أصل هذه العادة. يُقال أنَّ احد ملوك فرنسا تلقَّاها هديّة كباعثةٍ على الأمل. أهداها لزوجته ثم عمَّمها على نساء البلاط. انتشرت في ربوع فرنسا . كلُّ ما كان يفعله الملك كان ينتشر، يُعمَّم، يُقدَّس، ويُنفَّذ بحذافيره. حين كان الملك يغطس في البركة لأخذ حمّام. كانت حاشيتُه تغطس معه معتبرة أنَّ في الامر تضحية. كانت النظافة تضحيةً. كان بعضُ الملوك كالديكتاتوريات في العالم الثالث او أسوأ . كل ما يقوله الملك مُلزم. من لا يلتزم فالمِقصلة جاهزة.
ما لنا ومالِ المِقصلة في هذا الصباح الجميل ؟ . لنعد إلى زنبقة الوادي . يُقال أيضاً إنَّ هذه الوردة الجميلة جاءت من اليابان إلى اوروبا في القرون الوسطى. كانت عربونًا للفرح والحبّ. يُقال كذلك إنَّها وزعت بكثافةٍ في الأول من أيار حين تضامنت النقابات العُمَّالية الفرنسيّة مع ثورة العمال في شيكاغو عام ١٨٨٦.
يُقال الكثير . تمرُّ العقود،تتغيّر الأنظمة وتتعدَّد التظاهرات لكنَّ زنبقة الوادي تبقى هنا . تبقى عنوانًا للراحة والفرح والحبّ . تُرافق كلّ الأحداث والتطورات والتقلّبات . تنزل اميرةً كلَّ صباح الأول من أيّار/مايو على شوارع وإحياء وأزقّة الفرنسييّن فتستقرُّ في القلوب .
هي هديةٌ بخسةُ الثمن. ممتاز . هذا عاملٌ إضافيّ لإهدائها للحبيبة. طبعُ الباريسيّ اكثرُ ميلاً للأنانيّة. قلّما يُهدي الاّ في المناسبات. قد يترك حبيبته تدفع ثمنَ ما أكلت وهو يدفع ثمنَ ما أكل . هذه عاداتٌ تعزَّزت مع المساواة الاجتماعيّة . ليست هنا عنوانًا للبخل . يكفي أنْ يجوع الصومال لكي يُسارع الفرنسيّون للتبرّع وإرسال القوافل. يبقى الشعور الانسانيّ عاليًا وكذلك الثقافة العامة عند هذا الشعب .
تبقى زنبقة الوادي سيّدةَ صباحٍِه في عيد العُمَّال والحبّ والمحبّة. يستمرُّ الجدل حول أصلها وحولَ مَن قرَّر أن يكون الأول من أيّار/مايو مايو هو يوم البطالة. ثمّة من يؤكد أنَّ حكومة فيشي التي تعاملت مع الاحتلال النازيّ هي التي أقرّته عيدًا رسميًّا. لا داعي لنكءِ التاريخ الأسود. بياض الزنبقة يَجبُّ كلَّ ما قبله.
هذا العام، تكتبُ زنبقةُ الوادي تاريخًا جديدًا، ذلك أن ثمّةَ ثورةً جديدة قد بدأت ضد عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، فالشعبُ الفرنسيّ الذي تعلّم عبر تاريخه الحديث كيف يُدافع عن حقوقِه ومصالحِه، لم ولن يقبل أن يُفرض عليه رفعُ سنّ التقاعد من 62 عامًا إلى 64. للزنبقة هذا العام ، أريجٌ مُغاير.