ماكرون بنسخته اللبنانية، هل يَهزم شعبَه؟
سامي كليب:
أكثر من 70% من الفرنسيين يناهضون حاليًّا سياسةَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ينزل منهم الملايين الى الشوارع منذ أيام، رافعين شعارات تُذكّر بمرحلة ” الربيع العربي” وبينها: “فَلتَمُت يا ماكرون” أو:” انت قتلتَ أبي”، وذلك احتجاجًا على عزم الرئيس وحكومته رفع سن التقاعد من 62 سنة الى 64.
ستضحك أيها القارئ العزيز حتمًا من هذا السبب، ففي معظم بلادنا العربيّة، قد يُلغى كلُّ نظام التقاعد (هذا إذا وجِد) ولا يُحرّك الشعبُ ساكِنًا، وقد يُحرم الناسُ من الكهرباء والماء والدّواء وتُنهب أموالُهم من المصارف وتُقتلُ عملتُهم الوطنيّة على مذبح الدولار كما حصل في لُبنان، لكنَّ الحياةَ تستمرُّ بقهرها وذلّها، كأنَّ شيئًا لم يكن.
أمامَ هذا الهبوطِ المُريع لشعبيّةِ ماكرون، وفق استطلاعٍ للآراء نشرته صحيفة الأحد الفرنسية، يبدو سيّد الإليزيه بعد نحو عامٍ على إعادةِ انتخابِه لولايةٍ ثانية، في وضعٍ صعبٍ مُشابهٍ تمامًا لما كان عليه وضعُ زعماء لبنان وقادته ومافياته بعد انتفاضة 17 تشرين 2019. كلّما زاد قلقُه وعنادُه، ابتسم خصومُه وفي مقدمهم زعيمة اليمين المتطرّف السيّدة مارين لوبن.
يكفي أن يُلقي المرء نظرةً عابرةً على نوعية المتظاهرين وهم في معظمهم من جيل الشباب أو من الطلاّب أو من الطبقات المتواضعة والموظّفين والفقراء والنقابات، ويكفي أن يرى عبر التلفزات الفرنسيّة عملياتِ إحراقِ مقارٍ حكوميّة، مقابلَ قمعِ الشُرطة للمتظاهرين بالضرب أو القنابل المُسيلة للدموع، أو عشرات الاعتقالات، ليُدرك أنّ الأمرَ يُهدّد بالأسوأ، حتّى لو أخمِدت مؤقّتًا نارٌ تُشبه الثورة.
ماذا يفعل ماكرون وحكومته؟
على الطريقة العربيّة بشكل عام، واللُبنانيّة حاليًّا على وجه الخصوص، لجأ ماكرون، الذي كان قد وعدَ شعبه قبلَ 6 سنواتٍ بأنهار اللبن والعسل وأحيا آمالاً عريضة بالتغييّر آنذاك، إلى حيلةٍ دستوريّة، تُشبه تمامًا خزعبلاتِ ساسةِ لُبنان مع كلّ استحقاق.
وهكذا، وبدلاً من إخضاعِ مشروعِ حكومتهِ للتصويت في البرلمان الفرنسيّ، اختارَ الرئيس ماكرون المادة 49-3 من الدستور والتي تُجيز تبنّي مشروعَ قانون دونَ التصويت عليه.
برّر الرئيس والمقرّبون منه ومن حكومته التي ترأسها السيّدة اليزابيت بورن ارتكابَه الدستوريّ هذا، بأنّه فضّل مصلحةَ البلاد على مصلحته الشخصيّة والسياسيّة، وذلك كي لا تفرغ صناديق الضمان الاجتماعي، ولانّ “المخاطر الماليّة والاقتصاديّة كبيرة”، وذلك في محاولةٍ للمقارنة مع ما حصل في بريطانيّا بعد أن قدّمت رئيسة الوزراء هُناك ميزانيّة الدولة فالتهب الوضع الاقتصاديّ بعد اعلان تخفيض الضرائب واضطُرَّ المصرف المركزيّ للتدخُّل درءًا لكارثة اقتصاديّة.
بمعنى آخر، سيفرضُ رئيسُ الجمهوريّة الخامسة، هذا القانون بالقوّة على شعبه، الأمر الذي أجّج التظاهرات الغاضبة ضدّه، ودفع المعارضين لرفع شعار اسقاطه، وفتح الجدلَ واسعًا على ضرورة تعديل وتطوير وإصلاح الدستور والقوانين التي ما عاد كثيرُها يتلاءم مع العصر وهموم الناس.
قرارُ اللجوء إلى المادّة هذه من الدستور، يواجه مناهضة 78% من الفرنسيّين، وفق Le journal du Dimanche (صحيفة الأحد) الفرنسيّة، كما يواجه معارضةً شرسة داخل البرلمان نفسه، وانشقاقاتٍ من قِبل بعض حلفاء الرئيس وحزبه.
أمام هذا الواقع المُلتهب، يجد ماكرون نفسه بين ” الملاريا” و “الطاعون” كما قال أحد ألمعلّقين، فهو يُدركُ انَّ الاستمرار في معركة فرض القانون سيهزُّ عرشّه ويشلّ الكثير من سياسته للسنوات الأربع المُقبلة، ويدركُ بالمقابل أنّ التراجع قاتل.
هناك 3 احتمالات متوقّعة: أولها أن يمضي الرئيس غير آبه بكل الاعتراضات بالرغم من الغضب الفرنسي الكامن منذ حرب أوكرانيا بسبب اضطراب الوقود وأزمة مياه وغلاء تتفاقم، وثانيها أن يُلقي خطابًا يحاول فيه تهدئة النفوس مع بعد التعديلات الوزارية، أو يتراجع عن قراره كما فعل قبله رئيس الوزراء عام 1995.
يبدو، على الأقل حتّى الآن، أن الرئيس ماضٍ في خياره غير الشعبيّ، مُتحديًّا شعبًا حمله مرّتين إلى الرئاسة، في المرّة الأولى، اعجابًا بطروحاته التغييّرية من خارج المنظومة التقليديّة للحكم وبشخصيته الشبابيّة في مجتمع هَرِم، وفي المرّة الثانية خشيةَ وصولِ اليمين او اليسار المتطرفيَن. ولعلّه يُجري بعض التعديلات الوزاريّة إذا أضطُر لذلك أو حتّى تغييّر رئيس الوزارء.
الواقع أن الشعبَ الفرنسيّ، ليس من النوع الذي يقبل المساسَ بأوضاعه الاجتماعية التي تزداد صعوبةً وسط غلاء المعيشة والقلق من الغد. صحيح أن ماكرون خفّض نسبة الضرائب، وشجّع الاستثمارات، وأدار البلاد بأقل خسائر مُمكنة حيال كورونا وحرب أوكرانيا، لكنَّ الصحيحَ أكثر هو أنَّ الشعبَ الفرنسي يختلفُ تمامًا عن الكثير من الشعوب العربيّة ( بالرغم من ثورات الربيع)، ويختلف خصوصًا عن الشعب اللُبنانيّ حيالَ قوتِ يومه، وهو بالتَالي لم، ولن يقبل على الأرجح، ما يصفها الكاتب الفرنسي إتيان دو لا بويسي ب ” العبوديّة الاختياريّة “.
بناءً على ما تقدّم يبدو أنّ نارَ الغضبِ والاعتراض لن تهدأ، وانَّ فرضَ القوانين بالقوّة، فتح البابَ أمام حركة احتجاج ستبقى نارًا تحت الرماد، فتهدأ حينًا وتشتدّ حينًا آخر في الشارع والنقابات والبرلمان والمعارضة، مُنذرةً بشلّ الكثير من خطوات ماكرون قبلَ وبعد الخميس المُقبل، موعد تمرير القانون بالقوّة.
فهلّ ما فعله ماكرون جاء بنصيحةِ أحدّ أصدقائه اللُبنانيّين الذين جاهر بدكّ عروشِهم حين زار بيروت، ثم خضعَ لمشيئتهم لاحقًا ولم يُعاقب أحدًا منهم، أم أنّه تأثرّ بعبقريتهم في قهر الشعب بخزعبلات الدساتير.
من يَدري؟ رُبّما، لكنّ الطريف في الأمر هو أن فرنسا تُناقشُ حاليًّا مع السعودية وشركائها الآخرين حلّ مسألة الرئاسة اللُبنانيّة،مُطبّقة بذلك المثل القائل :” طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ. لكنّ الأكيد هو انّ سيّد الإليزيه، وبغضّ النظر عن صوابيّه قراره أو خطأه، يفكّر بمصلحة بلاده أكثرَ بملايين المرّات من زعماء وقادة ومافيات، دمّروا لُبنان ودولاً عربيّة، تارةً بالتحايل على الدستور، ومرّات كثيرة بخرقه واحتقاره وهم يدّعون الحرص عليه وعلى الشعب الغفور.
وأما السؤال الاستراتيجي الأهم حاليًّا: هل أن آثار الحرب الأوكرانيّة باتت تلعبُ الدورَ الأهم في ثباتِ أو اهتزاز الاقتصادات الأوروبيّة ومجتمعاتها؟