مقال اليوم

ميلادُ حرب

ميلادُ حرب

مرح إبراهيم

عادَ رمزُ السّماءِ فوق حقولِ القمحِ بلونَيهِ، ليُتوّج عناوينَ الصّحف الغربيّة، بعد مرورِ عامٍ  على دقّ طبول الحرب في أوكرانيا، التي أضحت بغتةً، في ليلةٍ من شتاءِ العامِ الماضي، قلبَ أوروبا النّابض. عادَ الأزرقُ والأصفرُ ليُمثّلا قضيّةَ العام في ذكراها الأولى، وبوصلةَ الغربِ نحوَ ذاكَ الشّرق.

عامُ مرّ على إعلانِ الاصطفافاتِ العمياءِ، بين التأليه والشّيطنة، بين “البطولةِ” و”الوحشيّة”، بينَ قطبِ الخير وقطب الشرّ. عامٌ مرّ على الجدل حول “اللاجئ الأوروبي” واللاجئ ذاك، المثقلِ بـ”هُويّاتِه” القاتلة: هو العربيّ أم المسلمُ أم الأسمرُ… ليسَ مهمًّا، إنّهُ فقط ذاك الغريبُ عن أرضِ الغرب، حتى أصبحَ غريبًا عن ذاتِه.

في هذه المناسبة، نشرت صحيفةُCourrier international  الفرنسيّة سلسلةً من المقالاتِ حول سنةِ الحرب المنصرمة، منذ الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، وذلك من خلال التّحليلات والتقارير التي نشرتها الصّحف الأجنبيّة. الحربُ بالأرقامِ والخرائط: ماذا حدثَ في هذا اليومِ من شباط 2022 وكيفَ غطّت الحدثَ كلٌّ من الصُّحف الروسيّة والأوكرانيّة والدوليّة ـ فَهْمُ الهجوم والهجوم المضاد في خمسِ خرائط ـ عدد الضحايا والمهجّرين ـ المساعدات ومصادِرُها ـ من ثمّ تعود إلى المعارك والتقارير الميدانيّة : منذ “الغزو الروسيّ” حتى معركة Bakhmout، كيف تعمل كتيبة Bratstvo، عمل الأوليغارشيين الأوكرانيين. تثير تحليلات كتّاب حول منهجية الرئيس الروسي (“في رأس فلاديمير بوتين”) في تفكيك الإصلاحات الغورباتشوفية التي أعقبت الحرب الباردة ( على شكل “بيريسترويكا معكوسة”) ـ أهي حرب ضد بوتين أم ضد روسيا ؟ ـ كيف تحوّلَ وجهُ الإعلام الأوكراني  بعد الحرب ؟ ـ قضايا الإنسان، والحبّ في زمن الحرب ـ البيئة ضحيةً صامتةً في خضمّ المعارك. سلسلةٌ شاملة حولَ 12 شهرًا من الحرب.

فُجاءةً، يستوقفك العدد، بغض النظرِ عن المعدود. أنتَ العربيّ، الآتي من ذلك الشرق الحزين على الضفة الأخرى، هناكَ حيثُ وُلد كلّ شيء: الحضارةُ والأبجديّة والموسيقى وكلّ ما تقوم عليه حياة الإنسان (“أمجاد التاريخ البالية”)، هناكَ حيثُ أصبح الحاضرُ معركةَ وجودٍ وبقاء. أنتَ الشرقيّ، يستوقفكَ العددُ لتسرحَ بمأساة ذاكرتَيكَ، القريبةِ والبعيدة: اثنا عشر.

بضعةُ أيَّامٍ بعد زلزالٍ دمّرَ ما تبقى من صبر الأرواح المنهكة، بعد 12 عامًا من الحرب، في وطنٍ غابت فيه الحقيقة: هل من سلسلةٍ صحافيّةٍ تكفي لرصدِ ما حصل على تلك الأرض ؟ هل في إمكانها العودة إلى الشرارات الحقيقيّةِ الأولى؟ ففي بلداننا، لا تُدقّ طبولُ الحرب، بل توكّل الطبولُ إعلانَها لآلاتٍ أخرى أكثرَ نعومةً، ربّما النّايُ الذي يعزف لجرذان المدينة، فيجذبُ ما استطاع من تجّارِ أرواحٍ ومرتزقة. تَجمّعَ جرذان الداخلِ من أعلى المدينة إلى أسفلها حولَ نغماتِ الناي، لكنّ الأيادي العازفةَ تجاوزت عدد ثقوب الناي، حتى تحوّلت النغمة إلى نشاذٍ يُنذر بالجحيم القادم. ما من شرارةٍ أولى تستطيعُ أن تستوعبَ الطابور الأول والثاني والخامس في ذلك الربيع المزعوم. نحنُ، شعوبَ بلاد الشام والرافدين، وقود الحروب بالوكالة، لا تلخَّصُ مأساتُنا بسلسلةٍ من الكلماتِ والأرقام. لو كانَ حبرُ الصحفِ

يقاسُ بكمّ الدم الذي سال على الأرض، لكتبَ الجرح السوريّ تاريخَ العالم بأسره. ولو أرادت الصحفُ تزيينَ عناوينها العريضة بعلمِ البلاد، أيّ علمٍ ستختار يا ترى ؟ باتَ شعبها لا يوحّدهُ علم واحد. أصبحت ألوان العلم وجهة نظر، مصابة بعمى الألوان أو حرجِ البصر. أمّا كلمة وطن، فصارت تنتمي إلى مفردات السّخرية والكوميديا السوداء. معزوفة الناي تلك سلبت روحَ المدينة لتكتبَ صفحاتُ التاريخ المظلمةُ أنّ عازفَ نايٍ أتى يومًا ليخلّصَ المدينة من جرذانها. إنّها معزوفةُ عالمنا، ويا لهُ من عالمٍ بائس.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button