آخر خبرثقافة ومنوعات

إهراءات القمح: لو عرفتُم مجدّها لما قتلتموها مرتين

قصة اهراءات القمح في بيروت من المجد الى اللحد

إيفلين قانصوه *
قرّرت أن اكتب اليوم عن إهراءات القمح، كي لا أكون  شاهدةَ زورٍ أنا أيضا على جريمة كان يُمكن تفاديها، وعلى موت تُحفةٍ معمارية تُراثية كانت عروس القرن الماضي، وكان يُمكن إنقاذها. 
الوقتُ ووهمُ الحداثةِ العشوائية يُسابقان مدينة بيروت كأنهما ينافسانها بشراسة على هويتها الحضارية والمعمارية أو لعلّهما يحسدانها أو يغبطانها على ما كانت عليه، فيتلذّذان بقتلها والاستماع الى آخر صرخاتها ودمعاتها وهي ترحل. ألم يقل عنها الشاعر العربي الكبير نزار قبّاني :” نعترفُ أمام الله الواحد/ أنّا منكِ كُنّا نغارُ/ وكانَ جمالُكِ يؤذينا/ نعترف الآن/ بأنّا لم ننصفْكِ/ ولم نعذُرْكِ/ ولم نفهمْكِ”؟
تفترس الهندسة الحديثة العشوائية كل شوارع المدينة التي كانت يوما ما عاصمة النور وموئل الثقافة والفنون وملجأ كلّ سياسي ضاق به الأفق في بلاده. ما عادت بيروت ما كانت عليه في تاريخها القرميدي الأحمر العريق. فقدت كثيراً من روحها، دفنت أحياءها واروقتها وشوارعها  وأزقتها القديمة، ضاربة بعرض الحائط كل المباني التراثية الأصيلة التي رسمت صورتها وقدمتها للعالم كمدينة للثقافة والفن المعماري المتنوع.   
  صحيح أن المدن لا تتكلم عن ماضيها ولكن نادرة هي المُدُن التي قتلَ فيها ساستُها وأهلها والطارئون عليها تلك الخصوصية التي جعلتها يوما عروس المُدن. غالباً ما تُحافظ المُدن العريقة على تراثها ومبانيها وهياكلها وتفخر بذلك، فلو ذهبت مثلا الى فاس المغربية، ستعرف فور أن تطأ قدماك أرضها أنها فاس وليست أي مدينة أخرى. ولو قصدت ” باب توما” في دمشق ستعرف أنه أحد الأبواب السبعة للمدينة وليس أي مكان آخر.  
في لُبنان قُتلت هوية المدينة ليس بالحروب والغزوات والاحتلال فقط، وإنما بتلك الفوضى اللعينة التي سمحت لكل شخصٍ أن يحمل معوله، ويبيع قلبه، ويهدم التراث ليقيم مكانَه مبانٍ غريبة عجيبة، واحياء متداخلة حتى الاختناق، ومحال تجارية وشوارع غريبة تماما عن روح بيروت .
عند كل كارثة تحلّ على وطننا يغرقُ الرأي العام اللبناني في جدل واسع ما بين التراث والسمسرة، والحاضر والتاريخ، والعراقة والحداثة، والاصالة والمعاصرة، لكن وحده وحش الاستثمار يُطلّ برأسه في كل مرة لينهش جزءا اضافيا من قلب بيروت وعراقتها، في ظل غياب دولة عديمة التخطيط مستعدة أن تبيع الأخضر واليابس من ثروات وحدود وهوية مقابل بضع دولارات تغذي بها فسادها المستشري.. 
اهراءات التاريخ والفن المعماري الرائد 
وكما حال كل الأبنية التراثية البيروتية المهددة بالتدمير تطل علينا اليوم قضية مبنى إهراءات القمح في مرفأ بيروت، الشاهد الأكبر على جريمة العصر! وتبدأ الحكومة اللبنانية بتنفيذ قرارها الحاسم بهدم الإهراءات رغم توصيات نقابة المهندسين، انتفض الحس المعماري في داخلي غيرةً على ما تبقى من تراث يروي قصة بيروت ويحتضن  لها بالاّ تفعل.
 لا نُغالي ان قُلنا إن الاهراءات تُقتل مرّتين، الأولى بالتفجير الذي تُخفى التحقيقات بشأنه أو تُميّع بانتظار موتها، والثانية عبر هدمها، وهي التي كانت أحد  أهم المنشآت الهندسية في القرن الماضي، فقرار التدمير هذا جاء كوقع الصاعقة على الشعب اللبناني وكان أشبه بقطع الأوصال الأخيرة مع عاصمتنا وإسكات الشاهد الأخير على بطش دولة لا تعرف سوى التدمير! 
  بُنيت الإهراءات عام ١٩٦٨ في عهد الرئيس شارل الحلو بمساعدة دولة الكويت، واستمرت أعمال البناء لغاية العام ١٩٧٠. بدأت الفكرة مع المصرفي الفلسطيني “يوسف بيدس” عندما قرر بناء مخزن للقمح في بيروت يستطيع أن يشكل نوعاً من الأمن الغذائي للبنان ودول الجوار نظرا لموقع بيروت الإستراتيجي.  وقد نفذ المشروع مكتب برومستاف  ( czech firm prumstav) بالتعاون مع المهندس اللبناني رودولف إلياس.
ينتمي المبنى إلى حقبة عمارة الحداثة (modernism) والتي انتشرت بداية الخمسينات. صُممت الإهراءات آنذاك على أن تكون الأكبر في الشرق الأوسط وعلامة معمارية حديثة لواجهة بيروت البحرية، ولذلك استدعت الكثير من الدراسات الهندسية التي شكلت تحدياً في بنائها في تلك الحقبة.
يرتفع المبنى حوالى ٦٣ متراّ ويحتوي على ٤٢ صومعة إصطناعية بقطر  داخلي ٨.٥ أمتار لتبلغ سعة القمح فيها الأضخم حينها (١٢٠ ألف طن من الحبوب). اتّصفت الإهراءات بطابع العمارة القاسية والشكل الأحادي (brutalist architecture and monolithic shape) مما أثار إعجاب الكثير من أصحاب الخبرة بالتصميم الفريد والذي حل مشكلة مساحة التخزين وقللّ من استغلال المساحة داخل المرفأ. 
يتشكل المبنى من هياكل خرسانية إسمنتية مسلحة، وهذا ما دفع بعض المهندسين الى وصفها بأنها تُشبه الجدران الرومانية التي كانت تحمي المدن عبر التاريخ، وهذا ما حصل حقاً عندما تمكّن أساس المبنى الإسمنتي القوي من إمتصاص قوة الإنفجار ومنعه من التمدد صوب الناحية الغربية للمدينة ولذلك كان الشاهد الأقوى على الإجرام الذي حلّ في بيروت في إنفجار ٤ آب. 
 بينما تقف قبة جينباكو (المنفذة أيضا من قبل  المكتب الهندسي نفسه الذي بنى الإهراءات) شاهدةً على انفجار هيروشيما والتي اعتبرت كنصب تذكاري للسلام هناك، تتخلص الدولة اللبنانية مما تبقى من آثار الجريمة مع اقتراب ذكرى انفجار ٤ آب ،وذلك بهدف المسح الكلي الممنهج للذاكرة الجماعية! غير آبهة لقيمة البناء الهندسية الكبيرة ومؤخراً المعنوية، ولكن من منا سينسى كارثة بهذا الحجم حتى ولو أُزيل المرفأ بأكمله. تستطيع السُلطة اللبنانية التذرّع بأنه ما عاد مُمكنا الحفاظ على الاهراءات المتداعية، لكن لو عندنا دولةٌ تحترم نفسها لكانت طلبت من كبار المهندسيين اللبنانيين والعالميين حماية الاهراءات والحفاظ عليها كشاهد ولو مقطّع الأوصال. غريب هذا البلد، فما أن يشعرُ فيه أي شيء بالألم أو الجُرح حتى يُبتر أو يُقتل، وكأننا صرنا وطنا في طور الانقراض الطوعي كي يبقى الفاسدون أسياداً. 
    قد نكون أعتدنا كشعب على خسارة كل ما كان يذكرنا بسويسرا الشرق ولكن تبقى معرفة الحقيقة هي خلاصنا وسبيل انتقامنا الوحيد لمبنى الإهراءات والمرفأ والضحايا الذين ذهبوا ضحية الإهمال والفساد والظلم.!

* الكاتبة: إيفلين قانصوه

مُهندسة معمارية لُبنانية متخصصة بالمشاريع الكُبرى في الدول العربية

وشاعرة نُشرت لها قصائد عديدة في صحف ومواقع محلية وعربية

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button