الأدب بينَ وهم الحريّة واغتيال الذاكرة
يعود طيفُ الأدب المقاوم كلما أيقظت الذاكرة مأساة الواقع، تقول الكاتبة والباحثة الجامعية مرح ابراهيم في مقالتها اليوم.
مرح إبراهيم ـ باريس
أمّا أنا وقد امتلأتُ بكلّ أسباب الرّحيل، فلستُ لي …أنا لستُ لي… أنا لستُ لي
ما الذي كان يعنيهِ محمود درويش في نهاية جداريته قبل الرّحيل الأخير؟ هل أنّ المبدعَ يغدو مُلكَ غيرِه بعد رحلة الوجود؟ ذلكّ أنَّ حبْرَ المبدعِ الشّاهد على العصر، مع ما يحمل من قضايا، موروثٌ لا ينضبُ إلّا بحرْق المكتبات.
لعلّها أبرز المعاني التي تراود من يقرأ الأدبَ المقاوم الذي يعودُ طيفهُ كلّما أيقظتِ الذاكِرَةُ مأساةَ الواقعِ، لاسيّما الذاكرة العربيّة المثقلة بحقيقة الاحتلال، وتجدّدُ العدوان بينَ كلّ ربيعٍ وخريف. خمسونَ ربيعًا مضى على تغييبِ غسّان كنفاني، ولا زلنا، كلّما عادت النكسةُ كَرّتَها، نستذكرُ سعيد س العائد إلى حيفا بعد مرور عشرين سنة على النكبة، يستعيد ذكرياته في شوارعها حتى تحطّ بهِ الذاكرةُ في غياهِب ذاك اليوم القاهِر من نيسان عام 1948، اليوم الذي دفع به وبزوجته وسكّان حيفا قاطِبَةً إلى زوارق النزوح، وبقي طفلهما الرضيع خلدون وحيداً في مَهْدِه. وهنا بدأت المأساة، مأساة الأرض ومن ثمَّ مأساة الإنسان. خلدون الذي بقي في حيفا نتيجة لحظةٍ من غِيابِ الوعيِ جعلت صفيّة تخرج غير مدركةٍ بأنه الخروجُ الذي لا عودةَ بعدَه…وبين النّكبة والنّكسة، تحوّل خلدون، الرضيع الفلسطينيّ، إلى الشابّ دوف، الذي كان قد التحق بجيش الاحتلال الصُّهيونيّ. من فكرة أن الإنسانَ في نهاية المطاف قضيّة والقضيّة مستقبل لا يرتكز على آلام الماضي وحسب، يدورُ حوارٌ يفوق قيمةً ما دارَ من حوارٍ ومفاوضاتٍ لا تنتهي منذ بداية الصّراع إلى اليوم.
كانت روايات غسان كنفاني وقصصه القصيرة غائرةً في عمق القضية وفلسفتها حتى لقِيَ كاتبُها مصيرًا يتماهى مع مصير شخصيّاته، فقد كانَ قلمهُ سلاحًا لم يستطع العدوّ مواجهتهُ، فأراقَ دمَهُ. سُلبَ هذا القلمُ كما سُلبت أرضه وسُلبَ خلدون لحظةَ اغتصاب أرض البرتقال الحزين، باسم أرض الميعاد. كذلك اغتال العدوّ ذاكرةً شابَّةً أرادَ إقصاءها وإنساء القضيّة، لكنّ مِدادَ كنفاني بقي، على الرغم من رحيله الباكر، أهمّ ما تبقى لنا.
في منظور الإنسانيّة، تُمثّل بعض القضايا، وأوّلها القضيّة الفلسطينيّة، مسألة عدوانٍ ومقاومة، ومنها الأدب المقاوم، حتى لو كان الصراعُ موضع جِدالٍ وأخذٍ ورَدّ. لكن ماذا عن الأدب التي يمسُّ المعتقدات؟ وهل ستبقى المُعتقَدات سيفاً مُسلَّطاً على الرِّقاب؟
مرّت أيّامٌ على طَعن الكاتب أحمد سلمان رشدي. وذلك خلال محاضرةٍ كان يُلقيها في مركزٍ ثقافيٍّ في نيويورك بعد أكثرَ من ثلاثين عامًا على صدور روايته آيات شيطانية. الرّواية التي لا زال عنوانها يلاحقه حتّى اليوم. فبصرف النّظر عن حبكة الرواية الممتدّة على تسعة فصول غير مترابطة، وعمّا حصل بين صلاح الّدين شمشا ـ الذي تحوّل بعد انفجارِ الطائرة إلى شيطان، بينما تحوّل الممثّل السينمائي فاريشتا (المتخصص بالأفلام الدينيّة) إلى الملاك جبريل ـ نجد أن عنوان الرواية نفسه ينسف فكرة الوحي والتنزيل من أساسها. لذلك نقول، إنّ ما بدا سيرةً ذاتية جسّد في رأي المسلمين (الذين سمعوا بالرواية، وبنوا عليها أحكاماً دون أن نتأكّد من أنّهم قرؤوها بالضرورة) قدحًا بائنًا في عقيدتهم، فرفضوه حدّ السّيف. وينبغي أن نعلم أن موضوع الرواية في مكان آخر يتعلق بفقدان المهاجرين الهنود هويّتهم الهنديّة وعجزهم عن الاندماج في المجتمع البريطانيّ الذي هاجروا إليه. فبقيَت حالهم معلقةً في الهواء كحال شمشا وفاريشتا.
<لا تشتم إلهًا لا تعبده>
< لا تحتقر إلهًا لا تعبده>
عبارتان سبقتا عصرنا بآلاف السنين. الأولى منقوشة على لوحِ حجريّ في تدمر والثانية في أوغاريت. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المعنى أحاديّ التوجّه، غير أنّه حمّال أوجه وأكثر شمولًا مما يُظهر، فالعبارتان تنصّان على احترام حريّة الآخر في معتقده وعلاقته مع الغيب. ولعلّ هذه العبر الإنسانيّة التي وصلت إليها الحضارات القديمة في شرقنا هي أكثر ما يفتقر إليه عالمنا اليوم بكلّ ما نشهده من أفعال وردود أفعال.
والأدبُ بصيغه وصوره الشّاهدة على العصور بما تحمل من تنوُّع الآراء واختلافها، إنما هو حياكةُ الموروث الذي يعنى بتخليد الثقافة البشرية. وهنا تكمن ميزة الأدب المُختلِف عن التعصُّب الديني الذي يُواجهُ الحبر بالدمّ، لا بالحجة والحوار المنطقي المُقنِع. وأغلب الظنّ أنّ الأديب يلوذ بالسُّخرية ويجنح بالخيال الساخر نتيجةَ انعدام الحِوارِ الفِكريّ الحُرّ.
وفي نهاية المطاف، حتى لو بدت حريّة التعبير وهماً يدفع الأديبَ عاجلًا أم آجلًا إلى الأخذ بأسباب الرحيل الذي استشعرَهُ محمود درويش، سيصدحُ من مِداده ترجيعُ : أنا لستُ لي، أنا لستُ لي، أنا لستُ لي…