تروي سنوات من العلاقات المتأرجحة بين الصين وتايوان، منذ فرار القوميين الصينيين إلى الجزيرة وإعلان تأسيس جمهورية فيها بعد سيطرة الشيوعيين على الصين، قصة صراع بقي متأرجحاً بين الاستقرار والغليان، كانت بوصلته الأساسية مدى ارتفاع لهجة تايبيه في الحديث عن الاستقلال، إلى جانب أنشطتها العسكرية المدعومة أميركياً.
لكن قبل هذا الصراع الذي يحتدم راهناً بين السلطتين، فإن لتايوان قصة طويلة، من الاستعمار إلى تنقّل السيطرة عليها بين بلدان مختلفة، وصولاً إلى الوضع الراهن الذي يبقي مستقبل الجزيرة معلّقاً.
تقول السجلات الصينية القديمة إن أول اتصال موثّق بين الصين وجزيرة تايوان كان في القرن الثالث بعد الميلاد، عندما أرسل الإمبراطور الصيني عام 239 بعثة قوامها عشرة آلاف رجل إلى الجزيرة لاستكشافها.
بعدها، وخلال عهد أسرة يوان التي حكمت الصين في الفترة الممتدة بين 1206 و1368، تم إخضاع الجزيرة ووضعها تحت وصاية البر الرئيسي. انطلاقاً من هذه السجلات يحاجج الشيوعيون في حقهم بالسيادة على الجزيرة واعتبارها جزءاً لا يتجرأ من الأراضي الصينية.
تاريخياً، لم يكن لتايوان سلطة حاكمة مركزية حتى استعمر الهولنديون الجزيرة في القرن السابع عشر، واستمر الحكم الهولندي لنحو أربعين عاماً (1624-1662). في وقت لاحق، تمتعت تايوان بحكم ذاتي، ولكن لسنوات قليلة فقط، ومن ثم خضعت في أواخر القرن السابع عشر لسيطرة الصين، واستمر الحكم الصيني لنحو قرنين من الزمن.
عام 1895 وأثناء الحرب الصينية اليابانية الأولى، سيطرت اليابان على تايوان وأصبحت الجزيرة مستعمرة يابانية. وعادت تايبيه إلى سيطرة القوميين الصينيين في عام 1945 إثر هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.
ولكن سرعان ما اندلعت الحرب الأهلية الصينية، فمُني القوميون بهزيمة ساحقة على يد الشيوعيين بقيادة الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، الذي أسس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، بينما فرّ القوميون بقيادة زعيمهم تشيانغ كاي شيك، إلى جزيرة تايوان وأعلنوا هناك تأسيس جمهوريتهم الديمقراطية.
في أعقاب ذلك ادعى الشيوعيون الولاية القضائية على البر الرئيسي الصيني وجزيرة تايوان، وكذلك فعل القوميون، الذين نجحوا في تمثيل الصين بالأمم المتحدة حتى عام 1971.
في ذلك العام بدأ التواصل بين الصين والولايات المتحدة، حتى إعلان البلدين إقامة علاقات دبلوماسية عام 1979، لتسحب واشنطن اعترافها بتايبيه، وتلتزم بمبدأ “صين واحدة”، وهي الصيغة التي اقترحها قادة الصين لحل أزمة تايوان، والتي اعتُبرت في ما بعد أساس العلاقات بين بكين وواشنطن.
ويعني مبدأ “صين واحدة”، أنه لا توجد سوى دولة واحدة ذات سيادة تحمل اسم الصين وتمثّلها في المحافل الدولية، وينظر إلى المبدأ في البر الرئيسي على أنه أساس إعادة التوحيد السلمي مع الجزيرة.
وعلى الرغم من التزام واشنطن به، فإنها لم تتوانَ عن دعم الحكومات المتعاقبة في تايبيه، ومدها بالتدريبات والمعدات العسكرية، فضلاً عن إبداء استعدادها للدفاع عن الجزيرة في حال أقدمت الصين على استعادتها بالقوة.
من جانبها، وعلى الرغم من اتفاقها مع الصين في ما عُرف بإجماع 1992 حول دولة واحدة ذات سيادة تضم البر الرئيسي والجزيرة، فإن تايوان استغلت ثغرة في الاتفاق لم تحدد أياً من الحكومتين الشعبية والديمقراطية هي الممثل الشرعي للصين، لتبدأ بالتصرف كدولة مستقلة وتقيم علاقات مع دول أخرى على هذا الأساس، وإن كانت معظم هذه الدول غير مؤثرة وليس لديها وزن على الساحة الدولية (23 دولة فقط تعترف بتايوان معظمها دول صغيرة تقع في أميركا اللاتينية).
شرارات حروب لم تكتمل
شهدت العلاقات بين الصين وتايوان على مدار السنوات الماضية تأرجحاً بين الاستقرار وحالة الغليان. وتم تسجيل ثلاثة خروقات أمنية يمكن اعتبارها الأبرز في تاريخ الصدام بين الطرفين. كان الاختراق الأول عام 1954، عندما حرّكت تايوان فرقتين من جنودها إلى جزيرتي “كن من” و”ما تسو” القريبتين من الساحل الشرقي للصين، فكان أن ردت القوات الصينية بقصف الجزيرتين بالقذائف المدفعية، كما احتلت أرخبيلاً صغيراً قريباً من العاصمة تايبيه.
وكان الصدام الثاني بعد أربع سنوات، حين قصف الجيش الصيني، في الثالث والعشرين من أغسطس/آب 1958، جزيرة “كن من” بأكثر من أربعين ألف قذيفة مدفعية، ضمن خطة للسيطرة على الجزيرة أعدها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.
غير أن الرئيس الأميركي آنذاك دوايت أيزنهاور، أمر قواته بدعم الجيش التايواني بالعتاد والأسلحة، كما تم الكشف لاحقاً عن اعتزام الولايات المتحدة استهداف الصين بالأسلحة النووية لردعها والحفاظ على الوضع القائم.
أما الصدام الثالث فكان رداً على زيارة الرئيس التايواني آنذاك لي تنغ هوي، إلى الولايات المتحدة عام 1995، حيث قامت القوات الصينية بإطلاق عشرات الصواريخ في محيط الجزيرة، ما دفع الولايات المتحدة في وقت لاحق إلى إرسال مجموعتين من حاملات الطائرات إلى مضيق تايوان لردع بكين.
الحياة السياسية في تايبيه
لطالما كانت مسألة ما إذا كان يجب أن تكون الجزيرة مستقلة رسمياً عن الصين هي القضية السياسية المهيمنة في تايوان منذ إعلان الجمهورية الديمقراطية عام 1949، وإن كان في ذلك الوقت حزب واحد يهيمن على السلطة هو حزب الكومينتانغ الذي يمثّل القوميين.
استمر الأمر كذلك حتى مطلع ستينيات القرن الماضي، حين برزت أحزاب سياسية صغيرة لكنها لم تعمل كأحزاب معارضة ولم يكن لها أي تأثير على سياسات الحكومة.
عن تلك الفترة، يقول أستاذ الدراسات السياسية في جامعة سوتشو، ليو بينغ، في حديث مع “العربي الجديد”، إنه في خمسينيات القرن الماضي كان يُنظر إلى قادة الكومينتانغ على أنهم سماسرة وثلة من الفاسدين، وكانت اللجنة الدائمة المركزية للحزب هي الجهاز الأعلى لصنع القرار في الجزيرة.
ويضيف: بموجب دستور عام 1947 كانت تايوان من الناحية الإدارية نظاماً متعدد الأحزاب، وبالتالي كان استئثار الكومينتانغ بالسلطة خرقاً للدستور.
ويشير إلى أن حركة الإصلاحات في الجزيرة بدأت في منتصف الستينيات، وشهدت تلك الفترة ترشح سياسيين بارزين كمستقلين ومعارضين لسياسة القوميين، إلى أن شكلوا عام 1986 الحزب الديمقراطي التقدمي. ويلفت إلى أنه منذ ذلك الحين تحولت تايوان إلى نظام ثنائي الحزبية على غرار الولايات المتحدة.
ويُوصَف الحزب الديمقراطي التقدمي، الحاكم حالياً، بأنه حزب تقدمي ليبرالي أقرب لليسار، بينما يُعتبر حزب الكومينتانغ من يمين الوسط. في بداية تأسيسه، دعا الحزب الديمقراطي إلى الاستقلال عن الصين، غير أن هذا التوجه عارضه القوميون الذين كانوا قد نسجوا علاقات جيدة مع قادة الحزب الشيوعي وارتبطوا مع البر الرئيسي بمصالح تجارية واقتصادية.
ويرى ليو بينغ، أن نجاح الصين في عزل تايوان على الساحة الدولية بفضل علاقاتها المتشعبة ونفوذها السياسي والاقتصادي، جعل خطة الاستقلال أقل خفوتاً حتى في صفوف الديمقراطيين. وقد عزز ذلك، حسب قوله، إعراب معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، عن معارضتها لفكرة إعلان تايوان استقلالها رسمياً.
فزاعة التوحيد والرفض الشعبي
دأبت الصين خلال العقود الماضية على الترويج لفكرة إعادة التوحيد السلمي بين البر الرئيسي وجزيرة تايوان، ولم يكن الخيار العسكري يُطرح إلا مقترناً بإعلان تايبيه الانفصال رسمياً.
وحاولت بكين تسويق نموذج “دولة واحدة ونظامان” المتبع في هونغ كونغ لفرضه على الجزيرة، غير أن الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المستعمرة البريطانية السابقة بسبب تدخّلات بكين، دفعت التايوانيين إلى إسقاط هذا الخيار من حساباتهم. وتُرجم ذلك في إعادة انتخاب تساي إنغ وين، التي تقود الحزب الديمقراطي الساعي إلى الاستقلال، لولاية ثانية قبل نحو عامين، على حساب خصومها من حزب الكومينتانغ.
إعادة انتخاب تساي كانت صادمة بالنسبة لبكين، لأن ذلك مثّل رفضاً شعبياً لفكرة التوحيد السلمي. وفي اتجاه آخر أعطت نتائج الانتخابات زخماً جديداً لخطة الاستقلال بغض النظر عن اختلال ميزان القوى الذي يميل إلى الصين بطبيعة الحال، فضلاً عن الرفض الدولي لهذا التوجّه.
بناء على ذلك بدأت بكين تصعّد لهجتها في الحديث عن إعادة التوحيد بالقوة، كما كثفت مناوراتها العسكرية في المضيق. وشرع منظرون صينيون في الحديث عن سيناريوهات الحرب ومرحلة ما بعد استعادة الجزيرة.
رهانات تايوان في وجه الصين
يقول الباحث في معهد الدراسات الاستراتيجية في تايبيه، خون وانغ، في حديث مع “العربي الجديد”، إن القيادة السياسية في تايبيه، تدرك أن موازين القوى ترجح دائماً كفة بكين في أي مواجهة وعلى جميع الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع يراهن على الأجيال الجديدة.
ويوضح أنه حين يحل جيل من التايوانيين محل آخر، فإن الهوية الصينية بين الناس سوف تزداد ضعفاً، وستتنامى المشاعر المناهضة للصين، وهو ما يشكّل، حسب قوله، حصانة ضد فكرة التوحيد السلمي. لكنه في الوقت نفسه لا يستبعد أن تلجأ بكين إلى الخيار العسكري، واصفاً تهديدات القادة الصينيين الأخيرة بأنها ليست عبثية، وتعكس اعتقاداً ثابتاً لديهم بأنه يجب استعادة تايوان بالقوة.
المقال منشور في : العربي الجديد ، وهذا رابطه الأصلي:
https://www.alaraby.co.uk/politics/%D8%AA%D8%A7%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-