سامي كليب: البعد الديني الغيبي هل يؤسس للحرب الدموية الكُبرى؟
من الُمستحيل فهمُ اليقين في كلام أمين عام حزب الله حول حتمية الانتصار على إسرائيل التي يسمّيها ب ” الكيان المؤقت”، بلا البُعد الغيبي الديني العقائدي، ومن المُستحيل أكثر التفكيرُ بإمكانية ” التطبيع” بين لُبنان وعدوه أو باحتمال ثبات الهدنة ونجاح المفاوضات وحصول تنازلات، طالما الحزبُ هو، وحتى إشعارٍ آخر، سيّدُ قرار الحربِ والهدنة في لُبنان. ولعلّ الغيبيين وحدَهم في إسرائيل نفسها أو عند الانجيليين الأميركيين المؤيدين للفكرة التبشيرية الإسرائيلية أيضا، يفهمون تماما ما يقوله السيد حسن نصر الله، ولذلك يزداد القلق ويبقى احتمال حرب الإلغاء الكُبرى قائما وحتميّا عاجِلا أم آجلاً.
في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، قال نصرالله:” إن موقف الجمهورية الإسلامية في موضوع فلسطين عقائدي وديني وليس موقفاً سياسياً او استراتيجياً وهناك أناس لا يفهمون ذلك”، وبدا حاسِما وحازِماً حول نهاية إسرائيل بقوله:” أنا أؤمن بأن لا مستقبل للكيان الصهيوني وأنا أسميه الكيان المؤقت واليوم القادة الإسرائيليون الكبار يتحدثون عن مخاطر وجود ، وأنا أرى زوال الكيان الإسرائيلي قريباً جداً”.
الواقع أن هذا اليقين لا يستند فقط على القدرات الصاروخية والطائرات المُسيّرة وخبرة الحزب القتالية الطويلة في لُبنان أو سوريا، ولا على الإمكانيات الاستخباراتية فقط، ولا على الخبرات الالكترونية (سايبرنت) التي تمّ نقلها من إيران المُتقدّمة جدا في هذا المجال، وإنما أيضا وخصوصا على البعد الإيماني الغيبي. وهذا يتقاطع تماما مع جوهر نظرة القيادة الدينية لإيران منذ فجر الثورة الإسلامية.
في كتابه ” الولي المُجدد” يشرح نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم الأفكار التي نقلها عن السيد علي خامنئي بالنسبة للبعد الايماني في قضية فلسطين. فنقرأ ان مرشد الثورة يقول:
* إن قضية فلسطين بالنسبة للجمهورية الإسلامية هي ليست أمراً تكتيكياً، بل هي أمر بنيوي أساسي ناشئ عن الاعتقاد الإسلامي.
* إن تكليفنا أن نحرّر هذا البلد الإسلامي من سلطة وقبضة القوّة الغاصبة وحماتها الدوليين ونرجعها إلى شعب فلسطين إنما هو تكليفٌ دينيٌّ وواجبٌ على جميع المسلمين.
* إن قضية فلسطين قضية عقيدة وقضية إنسانية وليست مجرّد قطعة أرض، هي ليست قضية سياسية أو قضية نفود إقليمي ودولي فهي قضية إيمان واعتقاد وهي ستتحرّر.
* فلسطين سوف تتحرّر ولا يخالجكم أي شكّ أو شُبهة في هذا الخصوص، فلسطين ستتحرّر يقيناً ستعود لأهلها.
هنا بالضبط تكمن التحوّلات الكُبرى في الصراع التاريخي مع إسرائيل، ذلك ان إيران وحزب الله والتيارات الإسلامية الأخرى المقاتلة المنتمية الى حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، تختلف تماما عن البعد القومي العربي الذي استندت اليه أنظمة وأحزاب وتيارات عربية وعروبية في قتال إسرائيل، وترى في الهدف الديني جسراً نحو الانتصار، ولا تقبل ضمنيا أي تنازل عن حدود فلسطين الكُبرى حتى ولو قبلت بالتفاوض أو الهدنات. فالهدف الأسمى بالنسبة لها هو القضاء على إسرائيل كاملة.
هذا ما يُعيدُنا الى التاريخ والى الجانب الآخر من الحدود، والى أصل القضية، فالحركة الصهيونية التي قدّمت نفسها، في البداية، على أنها حركة يسارية تحرّرية (ورحّب به فلسطينيون وعرب آنذاك)، سُرعان ما انكفأت صوب البعد الديني الذي صار هو الأساس في عمليات التعبئة والدعاية للاحتلال. والمتدينون اليهود الذين ناهضوا الصهيونية في البداية لا بل وناهضوا قيام دولة إسرائيل لأسباب دينية أيضا، صاروا لاحقا في رأس سُلّم القيادة وفرضوا قوانينهم على الدولة والمؤسسات والجيش، ودفعوا باتجاه عدم التنازل عن أي شبرٍ من أراضٍ يعتبرونها مُقدّسة، وقتلوا رئيس الوزراء اسحق رابين عام 1995 بتهمة التنازل، وما عادت حكومة في إسرائيل تستطيع التشكّل أو العمل بلا رضاهم ومشاركتهم وتنفيذ مطالبهم في المستوطنات وغيرها.
إن فكرة ” شعب الله المختار” قادت السياسات الإسرائيلية على مدى كل العقود التي أعقبت تقسيم فلسطين نحو الهدف الأسمى بالنسبة لهم ، أي إقامة إسرائيل من النيل الى الفرات. وقبل ذلك كان حاييم وايزمان الذي أصبح لاحقا رئيسا لإسرائيل قد قال في خطابه أمام مؤتمر فرساي في العام ١٩١٩:” ان التوراة شُرعتنا ” وهذا ما كرّسه الحاخام الأكبر لفلسطين في العام ١٩٤٨ بقوله ” لا أحد يمكنه المساس بدولتنا التي كرّسها الحق الإلهي”.
يؤكد السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو في كتابه القيّم ” حروب سوريا” :” أن هذه الشعارات هي نفسها التي تبنّاها الإنجيليون الصهاينة” لاحقا في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها. وهو يربط بين الأفكار الدينية التبشيرية الأميركية ورغبات الهيمنة على العالم، فيعود الى خطاب ألبرت بيفيريدج المقرّب من الرئيس ثيودور روزفيلت أمام الكونغرس والذي يقول فيه:” إن الله جعل منّا أسيادا مُكلّفين بتنظيم نظام حكومي في العالم حيث تسود الفوضى، وأوحى لنا بفكرة التطور بغية سحق قوى الرجعية على الأرض”.
يعتبر ريمبو أن هذه الأفكار المؤسِسة للاستراتيجيات التوسعية الأميركية هي التي قادت الى دمار العراق وسوريا ولبنان من منطلق ” الخير والشر”، وهي التي نرى انعكاسا لها في الخطاب الإسرائيلي
في أحد خطاباته التي اختتم بها مراسم عاشوراء، ربط أمين عام حزب الله ربطا وثيقا لا فكاك منه، بين” استراتيجية المقاومة” ومحورية الالتزام الديني والولاء المطلق لمرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي. قال حرفيا :” نحن هنا من لبنان نقول للعالم كله ان إمامَنا وقائدنا وسيِّدنا وعَزيزنا وحُسينَنا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الحسيني الخامنئي دام ظله وان الجمهورية الإسلامية في ايران هي قلب المحور وهي مركزه الأساسي وهي داعمه الأقوى وهي عنوانه وعنفوانه وقوته وحقيقته وجوهره “
تكتسب هذه الصفة الدينية بُعدا عميقا في ذهن نصرالله وأذهان مقاتلي الحزب. حتى لتكاد بعض روايات من قاتل منهم إسرائيل في العام ٢٠٠٦ تربط الجزء الأكبر من أسباب الانتصار بهذا البعد الديني. فيروي المقاتلون حكايات كثيرة عن رؤى في خلال المعركة، وعن صاروخ كان يستهدف دبابة فأصاب بالصدفة منزلا اجتمع فيه قادة إسرائيليون.
الخطير في كلّ ما تقدّم هو أن ثمة إجماعاً دينيا بين أتباع الأديان الثلاثة الإسلامية والمسيحية واليهودية بالوصول الى وقت تُدمّر فيه إسرائيل، وكلّ طرف يرى التدمير من وجهة نظره، إما كجسر لعودة السيدة المسيح (وهو ما تستند اليه فكرة الانجيليين الجدد واليهود المتطرفين) أو كانتصار إلهي على إسرائيل وفق الرواية الإسلامية التي يتبنّاها حزب الله وإيران والحركات الإسلامية الأخرى.
هنا يُصبح الكلام عن مفاوضات وجهود دبلوماسية وترسيم حدود وتنازلات، بالنسبة للمتدينين من الجهات الثلاث المتصارعة، مُجرّد أوهام بانتظار الحرب الكُبرى. وهنا تُصبح الحربُ المُقبلة لو وقعت بحرا كبيرا من الدماء والدمار عبر جانبي الحدود، ولا يعرف غير الله كيف تنتهي. ولذلك تأخذ إسرائيل على محمل الجد والقلق مشاريع إيران النووية والتوسعية وخطط حزب الله القتالية. فالمتدينون عندها يُدركون تماما مغزى الكلام الغيبي.
ما لم يتم فهم هذا البُعد الديني العقائدي الغيبي، فلن يستوعب أحد ما قد يأتي على حين غرّة، ولن يعرف أحد لماذا يُعطي حزب الله الأولوية للمعركة الاستراتيجية الكُبرى على مستوى المنطقة والمحور وليس للتفاصيل اللبنانية الداخلية. ولن يفهم أحد لماذا يسخر نصرالله علنيا أو ضمنيا من الداعين لنزع سلاح حزبه. فهذا خطٌ أحمر بالنسبة له، ولا يمكن التفكير به حتى لو خرجت إسرائيل من كل الاراضي اللبنانية وتنازلت عن كل الثروة الغازية المُستحقّة للبنان. فهذا السلاح بالنسبه له حتميٌّ في النصر “الإلهي” العتيد.