سامي كليب:
بعد خمسة أشهر فقط، ستكون إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحزبه الديمقراطي أمام حدثٍ كبير قد يتحوّل الى زلزال. ستجري الانتخابات التشريعية التي قد تُعيد ليس فقط الجمهوريين الى السيطرة على المجلس، وإنما ستُنعشُ أيضا فريق الرئيس السابق دونالد ترامب بشخصه أو بُمرشّح من قبله للرئاسة المُقبلة.
كان السيناتور الأميركي بيرني ساندرز كعادته في طليعة من صارح ناخبي حزبه الديمقراطي باحتمال الكارثة قائلاً:” إن حزبنا في طريقه للخسارة في تشرين الثاني، نوفمبر المقبل ما لم يُصحّح مسارَه”.
يُدرك ولي العهد السُعودي الأمير محمد بن سلمان، أن قسماً مُهمّاً من تصحيحَ مسارِ إدارة بايدن يمرُّ بالرياض، فإما يأتيه الرئيس الأميركي في فترة قريبة مُقبلة عارضاً التعاون بعد عاصفةِ اتهاماتِه المُتكرّرة، وإما سينتظر الأمير عاصفة الانتخابات النصفية الأميركية بشيء من الاطمئنان الداخلي وربما الابتسام.
رتّب الأمير محمد على نحو واسع وضعه الداخلي بمجموعة الإصلاحات والتحوّلات الكُبرى من مسائل الدين والثقافة والمرأة وتقليم أظافر المنافسين واستعادة أموال كثيرة من المُتهمين بالفساد، وصولا الى الخطط الاقتصادية والتنموية والتكنولوجية والعلمية المُقبلة. جذبَ في كل ذلك معظم القطاعات الشبابية التي تُشكّل النسبة الأكبر من سكّان المملكة ( نحو 70 %).
بعد ترتيب البيت الداخلي، رغم استمرار فخاخ المنافسين والمتربّصين والحالمين بدعمٍ خارجي لقلب الطاولة في طريق الوصول الى العرش او من قِبلِ المتضرّرين من ضربِه الغلو الديني أو من الانفتاح الثقافي والفنّي والمجتمعي، بدأ وليُّ العهد بتصفيرِ أزمات الخارج، أو تعزيز التحالفات الأساسية.
هو يسيرُ حاليا على خطّين متوازيين إقليميا، فمع استمرار السعي لإنهاء حرب اليمن ولحوارٍ جدّي مع إيران واحتمال فتح خطوط علنية لاحقا مع سورية، زارَ مصر والأردن وتركيا، ولكلٍّ من هذه الدول أهمية خاصة بالنسبة للرياض. وفي العواصم الثلاث استُقبلَ برتبةِ ملك تماما كما حصل معه سابقا في اليابان وبريطانيا وباكستان ، وكانت الحفاوة أكثر من لافتة. وكان يتصرّف من موقع القوة لا الضعف.
الواقع أن المملكة لم تُقصّر مع تُركيا المُرتبطة معها بعلاقاتٍ دبلوماسية تعود الى العام 1929، فمن التبادل التجاري والاستثمارات والسياحة وصولا الى المُساعدات المُباشرة، بقيت الرياض أحد أهم شركاء تركيا، وتُساهم في إنعاش الاقتصاد التركي. فوفق إحصاءات منصة المساعدات السعودي، قدّمت المملكة إلى تركيا مساعدات مالية بقيمة 463.816.390 دولارا، عبر 37 مشروعاً شملت قطاعات التعليم، والطاقة، النقل والتخزين، والصحة، والمياه والإصحاح البيئي، وذلك منذ العام 1979 وحتى العام 2020، وكان الدعم الأكبر في العام 2001 بمبلغ 205.550.000 دولار.
لكن الحذر الشديد الذي انزلقت اليه العلاقات في السنوات الماضية كانت له أسبابٌ كثيرة، ارتبطَ معظمُها بالتوسّع التركي بناء على مشاريع وأحلام كُبرى شرحها المنظّر السابق لحزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو في كتابه ” العمق الاستراتيجي”، وأيضا انطلاقا من رغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في التمدّد على صهوة الاخوان المسلمين، ناهيك عن وقوفه الى جانب قطر في خلال القطيعة الخليجية القطرية ، وصولاً الى اتهاماته المُباشرة للرياض والأمير محمد شخصيا بقضية قتل الصحافي جمال خاشقجي.
الآن طويت هذه الصفحات السوداء لأسباب عديدة، ولكن الأبرز بينها هي أن انقرة بحاجة ماسة لاستعادة الحضور الاستثماري والاقتصادي والمالي السعودي بعد تدهور سعر العُملة وارتفاع نسبة التضخم وأيضا في سياق الضغط على واشنطن والاتحاد الأوروبي، فلا بأس ان تطوي تماما ملف التحقيق بقضية الخاشقجي لا بل وتسلّمه أيضا للرياض، تماما كما أن الأمير محمد يستعيد من خلال هذه الزيارة وأيضا من اللقاءات الإقليمية الأخرى دوراً سعودياً تراجع في السنوات الثلاث الماضية، كما يُريد تشكيل مجموعة من التحالفات لإحداث توازن ضروري مع إيران حتى وهو يتفاوض معها.
وبما أن الشيءَ بالشيءِ يُذكر، لا ننسى أن أول زيارة سعودية لتركيا بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية معها، كانت تلك التي قام بها الأمير فيصل في العام 1932 في طريق عودته من أوروبا، ثم زارها حين أصبح ملكاً في العام 1966. وهذا على الأرجح ما سيحصل بعد وصول الأمير محمد الى العرش.
أما مع مصر، فلا داعي لإطالة الشرح، ذلك أن الدولتين التي تضمّان نحو 137 مليون نسمة، تُعتبران ركيزتين أساسيتين في السياسة العربية وبدون تعاونِهما الوطيد لا يُمكن لأي مشروع عربي أن ينجح داخل أو خارج جامعة الدول العربية، ولا شك أن حركتَهما المُقبلة قبيل القمّة العربية في الجزائر والتي من المُفترض أن تُعيد سورية الى مقعدها، ستكون أساسية في عدد من الملفّات.
من المُهمّ جدا في مرحلة إعادة رسم الخرائط العالمية والإقليمية وتمحوّر الأمم والدول على خطوط تحالف أو تناقض جديدة، أن تفيدَ الدول العربية من العودة العالمية الى تعدّد الأقطاب، ويُلاحظ مثلا أن السعودية ومصر وتركيا وإيران وغيرها تجد نفسَها في مرحلة مُريحة الآن لجهة القدرة على لعبِ أكثر من ورقة دولية بين أميركا، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين.
وفي هذا الصدد نقرأ مثلا في كتاب نشرته قبل أزمة كورونا الكاتبة والصحافية الفرنسية الشهيرة كريستين أوكرنت (وهي زوجة وزير الخارجية السابق برنار كوشنير)، بعنوان: de l’Arabie Le prince mystère ( الأمير اللغز للمملكة العربية السعودية)، قصةً لافتة وخطيرة يرويها الكاتب جيل كيبيل المتخصص بالشؤون العربية والإسلامية والأستاذ المُحاضر في الجامعات الفرنسية.
يقول كيبيل: ” في العام 2001، وغداة 11 أيلول (الهجمات الإرهابية على برج التجارة العالمي في نيويورك)، قدّر المحافظون الجدد ان المسؤولية تقع على عاتق السعوديين ووجبتَ بالتالي معاقبتُهم، وقد رأينا في حينه ترسبات لخرائط تقتطع الحجاز لإعطائها للهاشميين في الأردن، وإعطاء منطقة النفط أو “البتروليستان” في الشرق لأحد آيات الله الذي تدرّب في أميركا، ولا يحتفظ الوهّابيون سوى بالرياض ورمالها بلا نفط وبلا أماكن مُقدّسة، لكن العلاقات العائلية التي ربطت آل بوش مع المملكة حالت دون تنفيذ تلك المخطّطات”. ويشرح الكاتب كيف جاءت واشنطن بعد غزو العراق بشخصيات شيعية وسلّمتها الحكم.
كما ان كريستين أوكرنت تذكّر بالفروقات الكبيرة بين التعالي والصلف اللذين مارسَهُما الرئيس الديمقراطية باراك أوباما مع السعودية وتوقيعه للاتفاق النووي مع إيران، وبين إدارة ترامب التي تقاربت جدا مع السعودية ولعب جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب دورا كبيرا في ذلك.
اليوم السعودية تقف على هذا المُفترقِ نفسه لكنها مرتاحة أكثر من أي وقت مضى، فهي بين خيار أن يأتي اليها الرئيس بايدن مُعتذِراً مهما حاول تجميل وتبرير أسباب الزيارة، أو تنتظر على حافة النهر خسارة حزبه في الانتخابات النصفية.
أما إذا لم يخسر، فحينها لكل حادثٍ حديث، ذلك أن التطورات العالمية من أوكرانيا الى تايوان الى طريق الحرير الى تعدّد الأقطاب، سترفع مستوى الشراسة الدولية، لكنها حتماً لن تمنح أيّ طرفٍ القدرةَ السابقة على التصرّف مع الحلفاء كأنهم أتباع وليس شركاء حقيقيين.
تبقى المسألة الكأداء والمتعلّقة بإسرائيل. هل توسيع هامش التحرّك السعودي، وتعزيز قلاع الأمير محمد داخليا وخارجيا، سيجعلانه أكثر راحة في تسريع التقارب مع تل أبيب، أم أكثر حُريّة في عدم توقيع أي اتفاق تطبيع؟ لا شك أنه في الحالتين، سيأخذ بعين الاعتبار قضية المُنافسة الإقليمية والدولية من قبل الجارة والشقيقة الإمارات العربية المُتحدة، وقضية العلاقة مع إيران. فالرجل، على الأقل حتى الآن، يبحث عن مصلحة بلاده، ويُدرك ان التفاوض مع أي طرف من موقع الضعف لا ينفع. هذا بالضبط على ما يبدو خطّه البياني الأول.
وإذا استمر على هذا النحو ونجح، فلا شك أنه سيُناقض تماما نظرية ابن خلدون حول قيام واندثار الدول والممالك، ويُثبت أن الجيل الثالث ثبّت دعائم العرش ولم يساهم في اندثاره.