سامي كليب:
لم يتعلّم النظامان اللبناني والعراقي شيئا من التاريخ القديم ولا الحديث. كُلّما انزلقت العلاقاتُ الإقليمية أو الدولية الى أزمة أو صراع أو حرب، يكون لُبنان والعراق في طليعة المتأثرين سلباً، وغالبا ما يتحوّلان بسبب قصر نظر بعض ساستهما وتواطؤ البعض الآخر وصراعُ الديَكة فوق جثّة ما بقي من دولتين، إحدى ساحات هذه الصراعات والحروب، وهو ما سيتطّور حتما في المرحلة المُقبلة صوب حروبٍ متفرّقة أو حرب أوسع وأخطر، مع استمرار الانهيار على كافة المستويات.
يتردّد الواحدُ منّا قبل أن يكتب مثل هذا الكلام المأساوي، كي لا نساهمَ في تعميق مكامن القلق عند شعوبٍ تتضوّر لكن نصفَها على الأَقل يُعيدُ انتخابَ من تسبّبَ بجوعها، وقسمٌ منها يوالي قوى خارجية متناقضة، رغم أن كل تجارب التاريخ أثبتت أن هذه القوى تتنافر ثم تتصالح وتتوافق فوقَ جثثِ اللبنانيين والعراقيين ورمادِ دولتيهما العريقتين.
النظامُ العالمي يرسِمُ خرائط جديدة تمتد من أوكرانيا وبحر الصين الى شمال سوريا والعراق والحدود اللبنانية الإسرائيلية وفلسطين وغيرها، بينما السذاجة أو التواطؤ اللبنانيان والعراقيان يُعيدان رسمَ وانتاجَ كل التجارب الفاشلة التي دمّرت الدولتين وافقرت الشعبين، ويتجليّان حاليا بالانسداد السياسي وأوهام انتصار فريق داخلي على آخر، بينما معظم الأطراف وقودٌ للخارج أو بيادق.
تُحاولُ بعضُ الدول العربية تنويع مصالحَها الخارجية. لا يتردّد بعضُها في التفلت من أحادية التحالف مع الولايات المتحدة والبحث عن مراكز استناد في الصين وروسيا والهند وباكستان والبرازيل وغيرها ( نُلاحظ ذلك حاليا مثلا في السعودية والإمارات ومصر والجزائر)، تسعى دولٌ أخرى لانتهاز هذا الانقسام الدولي الحاد لتعزيز مصالحها الداخلية، أما في لُبنان والعراق حاليا، فالعماء السياسي المُطلق يضع البلدين على قارعة انتظار الحروب أو التسويات، ولا بأس أن يلهو الداخل بتفاصيل مُمّلة وممجوجة يلفظُها الشعب مهما زُيِّنت له.
الغرب الأطلسي مُشتبك علنا مع روسيا على أرض أوكرانيا وقد يتمدّد الاشتباك الى دولٍ أخرى ما لم تحصل صفقة كُبرى. وهو مُشتبكٌ مداورة مع العدو الأول، الصين، حيث نُذُر تأجيج وضع تايوان بدأت تُطلّ برأسها، وفي الإقليم، تُركيا ستحتل مُجدّدا أجزاء في الشمال السوري، وإيران وإسرائيل غارقتان باستراتيجية ” معارك بين الحروب”، حيث الاغتيالات والاختراقات كثيرة. والبحرُ الأبيض المتوسط يغلي فوق بُركانٍ لأن العالم سيكون بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى الى ثرواته من الغاز والجميع يستعد لحرب الأنابيب.
أما في لُبنان والعراق، فمعظمُ الساسةِ يعيشون على كوكبٍ آخر، ويدوسون على فقر وقلق شعبيهما، ويستمرون في تدمير بُنى الدولتين، ويفتحون الأبواب واسعة لكل من شاء التدخّل، وينتظرون بسذاجة نادرة هذا المبعوث أو ذاك، ويتناحرون فوق مشاريع إقليمية متناقضة. وكل هذا بالضبط ما سيجعل البلدين ومعهما دول عربية أخرى يدفعون الثمن في الحروب أو الصفقات.
مهما طال الزمن أو قصر، ستقع الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وقد تتوسع الى بعض أطراف المحور الذي تقوده إيران. فالمعادلة لا تحتمل أكثر من 3 خيِارات: صفقةٌ شاملة تمتد من الجولان الى جنوب لُبنان وتنسحب على الداخل الفلسطيني، أو تعطيلٌ شامل يزيد النقمة ويفجّر أوضاعا داخلية اجتماعية واقتصادية وأمنية مع عودة شبح الاغتيالات، أو حربٌ شاملة ستكون الأشرس والأكثر دموية في كل تاريخ حروب الشرق الأوسط ذلك ان الطرفين أي إسرائيل والمحور الذي تقوده غيران يُدركان أن الفشل في هكذا حرب سيكون مصيرياً لذلك فالدمار سيكون هائلاً.
حين توضع دولٌ صغيرة مثل لُبنان أمام هذه الاحتمالات، يكون المطلوب منها في زمنٍ كالزمنِ الذي نمرُّ فيه، أن تُرتّب صفقات الغاز مع شركات عالمية كُبرى وهذا يعني تغييرَ طبيعةِ النظام برُمّتة وتطبيعاً مُباشراً أو غير مُباشر مع العدو من الجهة الثانية من الحدود.
عَرَف لُبنان على الأقل 5 حركات مُسلّحة كُبرى أو متوسطة: الحركة الوطنية اليسارية، المنظمات الفلسطينية، اليمين المسيحي الذي أصبح قواتٍ لُبنانية، ظاهرة تمرّد الجنرال ميشال عون، كلُّها انتهت بعد حروب طاحنة واغتيالات كانت ترتسمُ خلفَها صفقاتٍ أدت الى تفاهمات أميركية-سورية ثم سورية عربية تولّت إدارة الملف اللُبناني.
لكن كل تلك الحركات المُسلّحة لم تصل الى مستوى تسليح وتنظيم وسريّة وتدريب حزب الله، ولا الى دقّةِ تمدّد المحور بقيادة غيران، ولم تحظ بدعمٍ ثابت ويقيني من جهة إقليمية كالذي يحظى به الحزب من إيران، وعلينا بالتالي أن نطرح سؤالا وحيداً: هل بقاء الحزب قوياً عسكريا وسياسيا ومالياً ويشكّل عَصَب المحور ويقبل بهدنة حدودية تسمح باستخراج الغاز، أسهل على إسرائيل ومن يدعمها، أم شنُّ حربٍّ ضروس تليها صفقةٌ كُبرى هو الأسهل مهما كانت النتائج؟
الواقع أن لا أحد يملكُ الجواب، لأن الحرب الكُبرى، حتى لو أدت الى اجتياح كامل للُبنان وتدمير كل ما فيه، ليست معروفة النتائج ذلك ان الجبهة قد تشتعل على أكثر من محور وحجم التدمير داخل إسرائيل أيضا قد يكون كبيراً خصوصا ان الطرفين هذه المرة يستندان أيضا الى عقائد دينية عميقة تقود جزءا كبيرا من عملهما السياسي والعسكري.
كلّ طرف جهّز بنيته لحرب واسعة، ولعلّ خطأ واحدا وكبيراً في سياق ” المعارك بين الحروب” قد يؤدي الى اشتعالِها. فالعالمُ غيرُ مُهتمٍّ بكيفية تشكيل الحكومة في لُبنان والعراق ولا بتأييد هذا الطرف أو ذاك، وإنما بمستقبل الثروات تحت الأرض وفي البحار، وغالباً في مثل هذا التنافس الجشع العالمي، تُطحنُ الدولُ الصغيرة طحناً ما لم تقرّر أن توازنَ سياسَتَها وتُصلح أمورَها الداخلية وتتحدّث بلسانٍ واحد بدل الاستمرار بالسذاجة والتواطؤ والغباء السياسي. والمطلوب الآن طحنُ الداخل اللبناني والعراقي طحناً واستمرار التفكّك وتحلّل مؤسسات الدولة وارتفاعٌ جنوني للدولار والمواد الغذائية.
هذا هو المطلوب، لكن السؤال الأول والأخير : ماذا يفعل ساسةُ بلدين هما من بين أقدم حضارات التاريخ والانسانية غير الإستمرار في تدمير الحضارتين على مذابح القوى الكُبرى وفوق جثة الوطن؟.