آخر خبرافتتاحية

الجزائر في عين العاصفة الأوروبية

التقرير الاستراتيجي الاسبوعي

سامي كليب

حذّر الاتحاد الأوروبي أمس الجزائر من فرض إجراءات عقابية ما لم تسوِ خلافها مع جارتها إسبانيا، وذلك بعد تعليق السلطات الجزائرية ” معاهدة الصداقة والجوار والتعاون” مع مدريد والموقّعة منذ العام 2002. وكانت الجزائر قد أقدمت على هذه الخطوة بعد خروج إسبانيا عن حيادها التاريخي بشأن الصحراء وتأييدها الموقف المغربي من خلال إعلان رئيس الحكومة الاسبانية الاشتراكي بيدرو سانشيز أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء هي:” الأكثر جدّية وواقعية ومصداقة من أجل تسوية الخلاف”.

كان يُمكن النظر الى هذا التوتر الجزائري الإسباني وما تلاه من دعم أوروبي فوري لموقف مدريد كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي، على أنه أمرٌ عابر ستتمُ تسويتُه لاحقا، خصوصا أن ثمة محاولات للوساطة جرت منذ أن كشف القصر الملكي المغربي عن رسالة التأييد الاسبانية لموقف الرباط من الصحراء، وبعد أن كرّرت مدريد موقفها هذا، لكن الجزائر الحالية برئاسة عبد المجيد تبّون تبدو أمام تحوّلات جدّية في سياستها الخارجية بغية تنويع مصالحها، وتتمسك بمواقف تاريخية، تضعها فعليا في عين العاصفة الأوروبية.

يُمكن التوقّف مثلا عند الملفات التالية كغيضٍ من فيضِ ما يرفضُه الاتحاد الاوروبي من قِبل الجزائر:

  • في أوج الغزو الروسي لأوكرانيا، استقبلت الجزائر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على أعلى المستويات (حيث استقبله رئيس الجمهورية بعد لقائه وزير الخارجية)، وتزامنت الزيارة مع احياء البلدين الذكرى الستين لعلاقاتهما الدبلوماسية، وقبل ذلك بنحو شهر كان الوزير الجزائري رمتان لعمامرة مع وفد من جامعة الدول العربية ووزراء خارجية عرب (من مصر والأردن والعراق والسودان) في موسكو للتوسط بين روسيا وأوكرانيا وانهاء الحرب بالطرق السلمية.
  • في أوج الحرب الأوكرانية أيضا نسّق الرئيسان الجزائري والروسي عبر اتصالات هاتفية تعاونهما في المجال النفطي في إطار منظمة الدول المنتجة والمصدّرة للنفط ” أوبك”.
  • بين عامي 2016 و2020 كانت الجزائر ثالثة دول العالم استيرادا للسلاح الروسي بعد الصين والهند، واشترت 46% من مجمل صادرات السلاح الروسية الى افريقيا (أي تقريبا نصف ما تصدّره روسيا الى كل افريقيا)..  آخر صفقة تم عقدتها الجزائر مع روسيا في الصيف الماضي وصلت الى 7 مليار دولار لصواريخ S300 و S400 وطائرات ميغ وغيرها.
  • في خلال جولة وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكين الى الشرق الأوسط وشمال افريقيا في أواخر آذار/ مارس الماضي (والتي بدأها في تل أبيب) سعى بلينكين لإقناع السلطات الجزائرية بأن تتولى توفير البديل للغاز الروسي (وارادات الاتحاد الأوروبي من الغاز الجزائري 11 % بينما من روسيا 47%). وهو الطلب الذي كانت الجزائر قد رفضته في خلال زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية ويندي شيرمان الى الجزائر.

مع ذلك يُلاحظ ان شركة ” سوناطراك” النفطية الجزائرية قد عقدت اتفاقا مُهما مع إيطاليا لرفع توريد الغاز اليها، ولم تغلق الأبواب أبدا للتعاون مع أوروبا، لكن منشآتها النفطية بحاجة الى تحديث كبيرة وهي تجد الآن الفرصة متاحة لجذب الشركات الأوروبية والأميركية بشروط أفضل من السابق.   

  • هناك شركات عالمية وبينها هاليبورتن الأميركية تعمل في النفط الجزائري، لكن لا وجود لشركات فرنسية. بينما يجري العمل على تعزيز وجود الشركات الروسية.
  • ربما التذكير مُفيد هنا بان الجزائر كانت قد نجحت قبل عامين في افشال مساعي شركة النفط الفرنسية العملاقة “توتال” بالاستحواذ على أصول شركة “انادراكو” الأميركية في الجزائر.
  • أعلن رئيس مجلس الأعمال الجزائري-المغربي إسماعيل شيخون أن الولايات المتحدة الأميركية ،التي لها مع الجزائر تبادلٌ تجاري يفوق 5 مليار دولار، ستكون ضيفة الشرف هذا العام في المعرض الدولي في الجزائر وذلك من 13 الى 18 حزيران/ يونيو الجاري، ومن المنتظر مشاركة أكثر من 40 شركة أميركية.
  • المشروع الضخم في ميناء الحمدانية-شيرشل في ولاية تيبازة أعطي للصينيين وكان الفرنسيون يريدونه. يقول مسؤولو المنطقة إن هذا المشروع قد يستحدث   10 آلاف وظيفة بمجرد الانطلاق به، وهو يسمح للجزائر بلعب دور كبير كوسيط تجاري بحري ذلك ان الميناء المذكور الذي يستطيع استيعاب بواخر شحن عملاقة سيخفض تكاليف السلع المستوردة بنحو 30 % ، وسيشجع التصدير لأنه يتحول الى مركّب صناعي ضخم يمتد على 2000 هكتار من الأراضي بمواصفات عالمية .  
  • مجمّعات فوسفات وحديد من تبسّة الى تندوف أعطيت أيضا للصينيين وبينها أكبر المناجم في العالم.
  • مشروع سكك حديد في الشمال باتجاه تمنراست أعطي للكويت، التي يسمع زائرُ الجزائرِ هذه الأيام كلاما مُهما عن مواقفها حيال فلسطين وخصوصا مواقف رئيس برلمانها.
  • حرمان فرنسا من تسيير وتحديث المترو في الجزائر، إضافة الى شركات مياه واتصالات كانت تطمع بأخذ عقودها.
  • كانت الجزائر قبل الحرب الأوكرانية قد بدأت باستبدال القمح الفرنسي بالقمح الروسي. واشترت قمحاً من كندا ودول أوروبية غير فرنسا
  • ما عادت الجزائر تستورد زراعات كثيرة، وهي نشّطت بعض ما عندها فمثلا هي تنتج حاليا 5 ملايين طن من البطاطا، أي ما يعادل ما تنتجه مصر رغم ان عدد سكان الجزائر هو أقل من نصف عدد السكان المصريين.

ثانيا ، أمنيا وسياسيا الأمثلة كثيرة أيضا :

  • تتحرك الجزائر على مستوى القارة الافريقية بحيوية لافتة منذ فترة وتحديدا منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبّون الى الرئاسة ليس فقط لتعزيز دورها ومنافسة فرنسا، ولكن أيضا لتوسع دائرة علاقاتها بعد قطع العلاقات مع المغرب (وهذا أمر مؤسف طبعا بين شقيقين وجارين)، لعل المثال الواضح على ذلك هو ما حصل في جمهورية مالي التي قاتلت فيها فرنسا طويلا، حيث بات الحكم الجديد قريبا جدا من الجزائر. المعروف في هذا السياق أن ” اتفاق السلام والمصالحة الوطنية” في مالي انطلق في الجزائر في أواخر ربيع العام 2015، وأوقف القتال بين تنسيقيات حركات الأزواد والحكومة المالية.
  • تستمر الجزائر كذلك في إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية التي تراجعت كثيرا في افريقيا، وتعزز علاقات التعاون ضد الإرهاب، وهنا كان التعاون مع مالي ضروريا ذلك أن ثلاث مناطق هي تمبوكتو وغاو وكيدال كانت في العام 2012 تحت هيمنة حركات إرهابية أو متطرفة أي أن 75 بالمئة من مساحة البلاد كانت خاضعة لهؤلاء.
  • كذلك فرضت الحرب الليبية دورا خاصا للجزائر، فهي دفعت الرئيس تبّون الى الاعلان منذ صيف العام الماضي عن استعداد بلاده للتدخل في أي طريقة يحتاجها الامر في ليبيا، وذلك بعد ان كان في العام 2020 قد وجّه إنذارا واضحا ” بعدم اجتياز الخط الأحمر ” وذلك حين تم تطويق العاصمة من قبل الجنرال خليفة حفتر
  • لم تتردد صحيفة ” المُجاهد” الرسمية في تحديد افق الطموح المُقبل للجزائر قائلة (في 10 حزيران 2021):” ان الجزائر تريد استعادة قوتها الدبلوماسية خصوصا في منطقة الساحل”. وهو ما يتكثف فعلا منذ فترة مع عدد من الدول الافريقية.
  • لعبت الجزائر دوراً كبيرا لطرد اسرائيل من الاتحاد الافريقي، وهذا كان خطوة كبيرة في أعقاب الضغوط الأميركية الهائلة لدفع الدول العربية للتطبيع. 
  • تقول تقارير إعلامية ان إيران ساعدت الجزائر في مجالات الحرب الالكترونية، مقابل تعاون مغربي مع إسرائيل ودول غربية خصوصا بعدما ارتفعت حدة التوتر بين البلدين الشقيقين والجارين.

التوتر الدبلوماسي مع فرنسا:

لا شك أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون كان في طليعة قادة العالم الذين أبرقوا للرئيس إيمانويل ماكرون لتهنئته بالولاية الجديدة، وتضمّنت الرسالة الجزائرية كلاما حميما حول الأمل بتطوير العلاقات على مختلف المستويات، ودعوة لماكرون لزيارة الجزائر.  ولا شك كذلك بأن ماكرون خطا في نهاية ولايته الأولى خطوات جيدة باتجاه الجزائر عبر كشف بعض الأرشيف التاريخي والاعتراف بمسؤولية الجيش الفرنسي عن بعض المجازر قبل الاستقلال. لكن هذا لا يمنع ان الملفات ما زالت مُعقّدة بين الجانبين، وأن الجزائر ماضية في تنويع علاقاتها الخارجية والخروج من الاحتكار التاريخي للشركات الفرنسية.  

تجدر الإشارة هنا الى انه قبل عودة الهدوء الى علاقات البلدين، كان الرئيس تبّون قد  رفع  الصوت عاليا بقوله قبل أشهر قليلة ان ” جرائم الاستعمار لن تسقط بالتقادم، وسنواصل بلا هوادة ولا تفريط استكمال جهودنا لاسترجاع الأرشيف واستجلاء مصير المفقودين أثناء حرب التحرير المجيدة، وسنطالب بتعويض ضحايا التجارب النووية وغيرها من القضايا المتعلّقة بهذا الملف من فرنسا”.

 ذهبت الرئاسة الجزائرية في أواخر العام الماضي الى حد الكشف عن رقم جديد ومُرعب لعدد ضحايا الاستعمار، وذلك للمرة الأولى حيث قالت إن العدد ” يُقدّر ب 5 مليون و630 ألف شهيد”.

يُقدّم الرئيس تبّون في كل ذلك صورةً تُقارب ما كان عليه حال الرئيس هواري بومدين. وهو يُدرك أن خطابه هذا الذي يلقى تأييد المؤسسة العسكرية ويحظى بشعبية واسعة في علاقة ” الكره والحبّ” مع فرنسا، يُربك القيادة الفرنسية، وهو ما اضطر الرئيس ايمانويل ماكرون الى القيام في 8 شباط/فبراير الماضي بأحياء ذكرى ضحايا “مترو شارون ” في باريس الذي قُتلوا أثناء تظاهرهم لأجل السلام في الجزائر في 8 شباط/فبراير من العام 1962، وفتح بعض الأرشيف والاعتراف ببعض المسؤولية التاريخية.

موقف ماكرون هذا ناقض موقفين سابقين له كانا قد أثارا غضبا كبيرا في الجزائر حيث تم استدعاء السفير الجزائري من فرنسا، وذلك حين اتهم ” النظام العسكري-السياسي” باستغلال الذاكرة لأجل المال، ونفى وجود ” امة جزائرية ” قبل الاستعمار. لم تكتف الجزائر آنذاك باستدعاء سفيرها وانما منعت عبور طائرات عسكرية فرنسية من التحليق في أجوائها كانت متجهتين الى الساحل في سياق عمليات مكافحة الإرهاب وكادت تمنع كل الطيران الفرنسي.

حاليا هدأت الأمور قليلا، لكن الأزمة الحالية مع إسبانيا، وتوسيع وتنويع العلاقات الخارجية الجزائرية للتحلل من الاحتكار الفرنسي، وفتح الأبواب للولايات المتحدة مع الصين وروسيا، والتشدّد في الموقف ضد إسرائيل ( هناك مشروع قانون في مجلس النواب لتجريم التطبيع) وعدم التنازل في المسائل النفطية داخل أوبك،( وهو ما بدا من خلال استقبال الرئيس الفنزويلي وتعزيز التعاون معه)،  أمورٌ تضع الجزائر في عين العاصفة، ولكن يبدو أن القيادة الجزائرية ماضية في تحوّلاتها هذه مهما كلّف الأمر، وذلك لسببين أولهما انها تماما كالمملكة المغربية تعتبران ان قضية الصحراء مصيرية، وثانيهُما لأن التوجّه الجديد في الجزائر مُصمّم على تنويع العلاقات الخارجية الى أقصى حد.

لا شك ان مصالحة جزائرية مغربية تبقى الرهان الأهم والأسلم للجسد المغاربي والعربي لمنع التدخلات الخارجية، وما لم يحصل ذلك، فان إمكانية التلاعب الخارجي بأمن ومستقبل البلدين عبر تعزيز الفتن والمشاكل الحدودية والداخلية يبقى حاضرا، فقضية الصحراء تجرّر أزمة بعد أخرى منذ نحو نصف قرن وتسمم علاقات الشقيقين وتمنع انتعاش اتحاد المغرب العربي ، للأسف.    

طبعا من الصعب الوصول الى مرحلة قطع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجزائر نظرا للمصالح المُشتركة بين الجانبين( رغم ان خطر الاحتمال قائم)، لكن من الصعب أكثر انتظار تنازلات جزائرية، خصوصا ان الموقف الاسباني بات تماما كموقف فرنسا وألمانيا وقبلهما موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يُعتبر من وجهة النظر الدبلوماسية والأمنية والاستراتيجية الجزائرية في موقع التهديد لمصالح الجزائر ودورها، وخصوصا ايضا ان اوروبا التي تحتاج الى الغاز الجزائري قبل الشتاء، لا تستطيع الضغط كثيراً وهي حتماً تعرف صلابة الجزائري حين يتمرّد. 

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button