كيف تنجح في حياتك وتُجمّلها؟علم النفس الايجابي يجيب
روزيت الفار -عمّان
هل جرّبت يوماً أن تكون منهمكاً بعمل ويكون جميع ما لديك من معرفة ومهارات وحواس منصبّاً على ما بين يديك وترغب في متابعته بفرح دون أيِّ تفكير بالانسحاب؟
هل تساءلت يوماً لماذا يلجأ أصحاب الأسواق الكبيرة Supermarkets لعرض أصناف الورود والأزهار في مداخل مَحالِهم وتشغيل موسيقى هادئة في الدّاخل ووضع أصناف الخبز والمعجّنات ذات الرّوائح الفاتحة للشّهيّة بأماكن مدروسة من المتجر؟
يقوم “علم النّفس الإيجابي” وحالة التّدفّق” The Flow State and The Positive Psychology بشرح ذلك لنا فيقول مَهاي تشيكسنت مهاي، عالم النّفس الهنجاري الأمريكي، “إن درستَ وبحثتَ في محيطك العادي العام؛ فإنّك ستبقى داخل إطار ذلك المحيط”.
فلا بدّ، حسب رأي هذا العالِم، من الخروج ممّا هو مألوف وعادي إلى آخرَ أكثر تخصّصاً ونفعاً. لذلك أقدم على إيجاد فرع جديد لعلم النّفس التّقليدي الّذي ارتبط بمعالجة المشاكل النّفسيّة كاختلال التّوازن العاطفي لدى الأشخاص والّذي يصف القلق بأنّه الحالة الذّهنيّة النّاتجة عن تحدٍّ صعب لا يمتلك الفرد المهارات المطلوبة للتّعامل معها، إلى ما أسماه “علم النّفس الإيجابي”، بغية جعل حياة الأفراد العاديين غير المضطربين؛ جديرة بالعيش، وذلك بتوظيف مناحي النّشاط الإيجابيّة وما لديهم من مهارات؛ في دراسة وكشف ما يمكّنهم من الوصول للأفضل. بمعنى آخر، يعمل علم النّفس الإيجابي على تطوير مقدرات الفرد ومهاراته بغية تحسين نوعيّة حياته. يُذكر أنّ مدارس “المونتيسوري” تستخدم هذا الأسلوب في التّعليم وتبعها في ذلك العديد من المؤسّسات التّعليميّة الحديثة.
ويقول ميهاي بأنَّ الامتلاء بمغزى الحياة الحقيقي؛ يعود بالأساس لعلم النّفس الإيجابي.
ما هي حالة التّدفّق وكيف تكون أحد تطبيقاته؟
إنّ “حالة التّدفّق” أو ما يسمّى بالعاميّة “المنطقة” “The Flow State” or “The Zone” وهو مُصطلح يصف حالة وعي وإدراك ذهنيّة تتوافق فيها مهارات الفرد الحقيقيّة بشكل تام مع تحدّيات العمل أثناء قيامه بذلك العمل. ويجد “ميهاي” بأّنّ العمل الرّوتيني السّهل مُمِلّ وبأنّ العمل الصّعب أو المُتعذّر محبط. موضّحاً بأنَّ ما يحدّد سهولة أو صعوبة العمل، هو مدى موائمة مهارات وقدرات الشّخص مع المتطلّبات الّلازمة للقيام بذلك العمل. وتِبعاً لاختلاف قدرات الأشخاص ومهاراتهم، فإنّ العمل الذّي يبدو سهلاً أو مستعصياً لدى أحدهم قد لا يكون كذلك لدى شخص آخر.
كيف نبدو حين نكون “بحالة تّدفّق”؟
“المنطقة” أو “حالة التّدفّق” هي كما علمنا؛ حالة ذهنيّة وليست بمكان أو محيط مادّي؛ يعيشها الشّخص العادي ويتحوّل فيها إلى شخص آخر خارق، يصل فيها إنجازه إلى أقصاه ضمن جهد طوعي لا يتطلّب إتمامه طاقات كبيرة. ويشعر أثناءَها الشّخص بمزاج عالٍ ويكون بكامل انتباهه وتركيزه إلى حدٍّ يصعب على أيِّ أمر خارجي أن يوقفه أو يتمكّن من اختراق تفكيره.
نجد مَن يعيشون الحالة خارج إطار ذواتهم؛ فهم يتعدّون أنفسهم بل يهيمون فوقها، إذ يكون دماغهم منشغلاً بكامله بالعمل الّذي يقومون به ولا يسجّل أيَّ نشاط خارجه، بل يكون متمتّعا بفرح تسجيل إنجازات جزئيّة متلاحقة ومستمرة تعمل على تحفيزه لمزيد من الإنجاز، وهو ما يعرف بالإنجليزيّة بِ Being on the roll، ليخرج الشّخص بالنّهاية؛ بعمل متكامل ناجح يشعره بسعادة غامرة.
تشبه حالة الانسجام التّام هذه حالة تدفّق مياه النّهر من حيث تماسك وانجذاب جزيئاتها نحو بعضها في مواجهتها لكافّة المعوّقات الّتي قد تعترضها أثناء تدافعها وجريانها. حيث لا صعوبة ولا ملل بل انسيابيّة كاملة وانعدام الشّعور بالفشل أو حتّى أيّة إمكانيّة لحدوثه.
يختصر ميهاي سلوكنا أثناء الحالة بخمسة صفات هي:
-الإنجاز على أعلى مستوى وبمختلف أنواعه سواء كان إنجازاً محسوساً أم تقنيًّا دون الشّعور بأيِّ ألم جسدي أو عاطفي، بل بتوازنٍ سريع وثابت يجعل ما كان يبدو صعباً؛ مُمكناً وسهلاً
-الانسجام التّام دون قيود أو حدود
-عدم إمكانيّة التّوقّف أو السّماح لحدوث مقاطعة.
-عدم الإحساس بالذّات والوقت ودمج العمل بالوعي.
-شعور السّيطرة والقدرة على امتلاك كلّ ما يلزم للنّجاح.
-تعزيز جميع حواس الجسم فيما تعمله الآن وما ستقوم به كخطوة لاحقة والشّعور بأنك متّصل وبأنَّ مزاجك يتناغم مع محيطك.
تنطبق هذه الحالة على معظم أشكال الأعمال: كالكتابة والرّسم والعزف وكذلك أيضاً على النّشاطات والألعاب الرّياضيّة وسباقات الجري وتسلّق الجبال، كذلك في الألعاب الإلكترونيّة وفي ألعاب صالات القمار أو أي نشاط فيه تحدٍّ ويحتاج لتعلّم مهارات. فهي إذاً خاصّة بتنفيذ أعمال صعبة، ولا تحدث للأشخاص بأوقات الفراغ والتّلقي والاسترخاء.
هل تستطيع إجبار ذاتك على دخول تلك الحالة؟ وهل بالإمكان إطالة مدّتها؟
لقد أثبتت الدّراسات والأبحاث وجود ما يساعد على خلق تلك الحالة أو التّهيئة لها، بدءً من اختيار عمل محبّب واستبعاد ما يمكن أن يشتّت الفكر والعقل من أمور خارجيّة مرتبطة بالمحيط المادّي، وداخليّة خاصّة بنفسيّة الشّخص وعقليّته، إلى تقليص جميع المهام الجانبيّة أو تأجيلها. غير أنّ الحرص على إبقاء الجسم بحالة صحيّة سليمة وإمداده بالسّوائل، يُعتبر من الأمور المُهمّة لإطالة مدّة المكوث بداخلها، بالإضافة للاستماع لموسيقى مناسبة وأحياناً تعمل الشّموع المعطّرة المضاءة كمُلهِمٍ فاعلٍ لمزيد من الإنجاز. هكذا يتمكّن أصحاب المتاجر الكبيرة من جعل زبائنهم يشعرون بهدوء النّفس أثناء تسوّقهم من خلال تهيئة جوٍّ نفسيٍّ مريح لهم كمناظر الورود في مداخل المتجر والموسيقى وروائح أصناف الخبز ودرجات الحرارة المعتدلة داخله، ما يساهم في تشجيعهم وبقائهم مدّة أطول لشراء المزيد من السّلع. تسوّقوا وتمتّعوا، فالتّسوّق بحدّ ذاته متعة، تتضاعف مستوياتها حين تتم بأجواء مريحة وهانئة.