عقيل سعيد محفوض
يَغرق العالم العربي في الأزمات والهزائم. لكن العرب لا يقيمون مناسبات أو يعلنون أياماً وطنية لاستذكارها، بل انهم أحياناً –ربما غالباً- ما يتحدثون عنها بوصفها “انتصارات”. وثمة أمم كثيرة تفعل ذلك، ومنها ما “يسكت” عن الجانب المظلم في تاريخها وواقعها، و”يُعَظِّم” المضيء فيهما.
المشكلة أن الهزيمة حاضرة بقوة في حياة العرب، وتكاد تسم وجودهم المعاصر، ولا مؤشرات جدية على أي تغيير في ذلك. كما لو أنها أمست قدراً لا فكاك منه. وتعيد الشعوب العربية إنتاج واقعها، قُل: هزائمها، بكل همة، وتخصص الكثير من الموارد المادية والمعنوية لإجهاض أي مشروع نهضوي أو وطني لديها. ثمة سوء فهم جماعي لدى العرب حول متطلبات أن يكونوا أمة أو أمماً أو شعوباً حاضرة وفاعلة بين أمم وشعوب العالم.
وهكذا، بعد أكثر من قرنين على صدمة الاحتكاك بالغرب، منذ أيام حملة نابليون على مصر، وربما قبلها، كانت أسئلة العرب نفسها، بل ثمة تراجع مريع بهذا لخصوص، إذ تحولت أسئلة النهضة إلى أسئلة الهزيمة، وأسئلة التنوير إلى أسئلة التكفير والتدمير، وأسئلة التحرير إلى أسئلة الاستسلام. وأجيال لا تميز بين محمد عبده الفقيه الأزهري، ومحمد عبده الفنان الخليجي. على ما يقول محمد الماغوط.
صحيح أن الانتصارات عامل مؤسس في تاريخ الأمم والشعوب، لكن الأمم ليست وليدة الانتصارات فقط، بل الهزائم أيضاً، وأحياناً قَبْلاً! الهزيمة هي “دينامية إنتاج” مثلها مثل الانتصار، وأحياناً أكثر. وهذا ينطبق بكيفية ما على العالم العربي، وكثير من الأمم والشعوب حول العالم، بما فيه الأكثر تقدماً اليوم مثل: اليابان والمانيا وحتى فرنسا والصين وروسيا، فهي وليدة هزائم كبرى أيضاً.
باثولوجية الهزيمة
تحدث إميل دوركهايم عن ان “الأمراض” لا تصيب الأفراد فقط، بل المجتمعات أيضاً، والتي يمكن أن تتعرض لاختلالات تؤدي إلى اخفاقات وعذابات وأزمات وصراعات وهزائم. منطق دوركهايم يفتح المجال أمام أسئلة من نوع: لماذا أخذت الهزيمة –بما هي ظاهرة مرضية أو مؤشر على ضعف واختلال وعدم توازن- كل هذا العمق والقوة في المجال العربي، وكيف حكمت العرب زمناً طويلاً، ولماذا لم يتمكن المهزومون من “تشخيص” الأسباب، وإحداث تغيير جدي في المسارات والأحوال؟
ثمة خطوط إجابة كثيرة، لكن أياً منها لم يتمن من أن يخلق أي قدر من التوافق حوله. ويمكن الحديث عن أن المشكلة هي مشكلة الإنسان والمجتمع في ان. الحديث عن “الإنسان المهزوم” بوصفه نتاج “أمة مهزومة”، و”الإنسان المستباح”، بوصفه نتاج “أمة مستباحة”، بتأثير فواعل الداخل والخارج، والصحيح أنها فواعل الداخل قبل الخارج، إذ إن الهزيمة أمام الخارج أو الاخر، هي –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه- تَجَلٍّ لهزيمة في الداخل قبلاً. والهزيمة هنا، ليست الإخفاق في المعركة أو المواجهة مع جيش الخصم، وإنما الإخفاق في بناء الإنسان الحر والمجتمع الحر، وتدبير أسباب القوة والانتصار.
استذكار الهزيمة
لكن هل تحتفي الأمم بأيام الانتصار في المعارك الكبرى فقط، ألا يُفترض بها أن تستذكر أيام الهزيمة أيضاً؟
بالطبع ثمة من يفعل ذلك، فألمانيا واليابان مثلاً تستذكران هزيمتهما الكبرى والتاريخية في الحرب العالمية الثانية، ولو أنهما تعدانها فرصة كبرى أيضاً، وبوصفها منطلقاً لاستجابة كبرى، ومقدمة لانتصار لاحق، في التنمية والاقتصاد والاستقرار وغيرها، ولا خلاف تقريباً على أنهما يحتلان موقعاً متقدماً في ميزان المعنى والقوة في العالم اليوم.
ومثال ألمانيا واليابان هو أحد المعاني الممكنة للقول ان الهزيمة نظام إنتاج للمعنى والقوة، وصانعة للتاريخ، لكنه معنى مشروط بالوعي واستئناف السياسة، والعمل بهمة واقتدار على تصحيح التاريخ، بالنسبة للأمم المهزومة.
وإذا كان لأمم أن تستذكر الهزائم التاريخية، فمن المفترض أن يشغل العرب موقعاً متقدماً في هذا الباب، ليس لأنهم الوحيدون الذين هزموا، وإنما لأنهم من أكثر من يتعامل مع الهزائم بوصفها انتصارات، كما سبقت الإشارة.
لماذا يوم وطني للهزيمة؟
يمكن الحديث عن يوم قومي أو طني للهزيمة، وهو ليس لتمجيد ما حدث، ولا للقاء اللوم والتبعات، ولا للحديث عن مؤامرة أزلية كونية ميتافيزيقية ضد العرب، وإنما لتفكيك ألغاز الحدث، ومسائلته، وطرح أسئلته. وتنبيه الشعوب حول أحوالها اليوم، بكيفية تساعد على تفسير ما هي فيه، مقارنة بأحوال غيرها من الأمم والشعوب حول العالم، ذلك أن التأخر والهزيمة أمور يمكن فهمها وتفسيرها، وليست معطيات ميتافيزيقية، ولا أمور غير قابلة للفهم.
والتاريخ ليس صفحات ناصعة على الدوام، ومن الخطأ النظر إليه بوصفه كذلك، فيه الانتصار وفيه الهزيمة، والمهم بالنسبة لوعي التاريخ، هو ليس مجرد الاطلاع عليه، بما هو وقائع، فحسب، وإنما “تعقيله”، وإزالة السحر والغموض عنه، أيضاً، بمعنى فهم روحه ودينامياته العميقة، وأهمها دور الإنسان فيه، وكيف يمكن للهمة والإرادة –إنما في أفق أمة ومجتمع وليس أفق الملة أو الجماعة أو الأمير- أن تغير الواقع.
وهذا بالضبط ما فعله الألمان واليابانيون والروس والصينيون. فألمانيا واليابان والصين تستذكر الهزيمة في الحرب، وتقيم جلسات النقاش والحوار على المستوى الوطني، ولا تجد حرجاً في قول الحقيقة، انها هزمت في الحرب، مشفوعة بالأسباب والمحددات، والفواعل والدروس والاستخلاصات. .
وحاول العرب أن يفعلوا شيئاً ما بهذا الخصوص، في مراحل مختلفة من تاريخهم المعاصر، انظر مثلاً المشروع النهضوي في نسخه المختلفة، منذ لحظة محمد علي باشا في مصر، والمشروع القومي العربي، الذي قدم خطاباً مهماً ولكنه أخفق بتأثير عوامل وإكراهات عديدة، من داخله ومن خارجه، من داخل المجال العربي ومن خارجه؛ ومن داخل منظومة وفواعل المشروع نفسه!
يوم وطني أو قومي للهزيمة، من أجل التفكير فيما حدث، ولماّذا أمكن أن يحدث، ولماذا لم يمكن تجاوزه، بل لماذا يتم إعادة إنتاجه، ولماذا نتمثل قيم الهزيمة، ونستبطن ما يريده الاخر لنا أو منا، نساعده في تحقيق أهدافه تجاهنا.
ولماذا يمكن تحقيق أي تقدم في أي من موضوعات ومفردات الأجندة العروبية أو التضامن الإقليمي، أو الصراع مع إسرائيل، او حت وما حاول العرب أن يفعلوه في مراحل مختلفة من تاريخهم المعاصر، ح النزاعات المحلية والجهوية ليس بين البلدان العربية فحسب، وإنما داخل كل بلد عربي بعينه.
ولماذا لم يمكن التوافق على مشروعات وطنية، ولا تزال أفكار ما قبل المجتمع أو ما فوقه، وما قبل الدولة (بالمعنى الحديث)، وما بعدها، هي الغالبة؛ بل لماذا، أصبح الإنسان كائناً متخلياً مهاجراً، كما لو أن هذه البلاد “الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود”!
يوم قومي للهزيمة، لنتذكر ونؤكد بداهاتنا حيال أنفسنا وحيال العالم، وحيال الخصم، أنه عدو. حيال أنفسنا، أننا هزمنا قبل المعركة. هزمنا عندما لم نعرف من هو العدو، ولم نعرف كيف يمكن منازلته ومواجهته، أو تدبير الموقف حياله. ولم نعترف بكل ما يجري، وحولنا الهزيمة إلى مزاعم نصر، واحتفلنا، ومنعنا مجرد التفكير بحقيقة ما حدث، أو مجرد التفكير في أسباب الهزائم المتكررة، ولماذا تقدم الاخرون، بما فيهم شعوب مثلنا أو تشبهنا في أمور كثيرة، كـ الترك والفرس، فيما لا نزال نقبع في اخر قوائم مؤشرات التنمية وحقوق الإنسان والحريات، فإننا نشغل القمة في قوائم الفقر والتسلط والقتل والتعصب … والهجرة؟
يوم وطني أو قومي لاستذكار، ليس المعارك الخاسرة فحسب، وإنما المقدمات التي جعلت الخسارة ممكنة، كما سبقت الإشارة، وكل ما يعيد إنتاجها، ويمنع العرب من تلمس الطريق المناسب للنهوض والعودة إلى التاريخ.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…