آخر خبرافتتاحية

     لا تبيعوا البحر والسيادة في يوم التحرير

سامي كليب:

                 يحتفل لُبنان كلّ عام (بعضُه عن قناعة وبعضُه الآخر على مضض)، في مثل هذا اليوم، 25 أيار/ مايو، بعيد التحرير، وهو التاريخ الذي  أضطُر فيه الجيش الإسرائيلي للانسحاب من جنوب لُبنان في العام 2000 بعدما صار احتلالُه عبئا عليه وسط ارتفاع وتيرة العمليات ضده وقبضات الكرامة، وبعدما نبذَهُ أهل الأرض الصامدون الطيبون.

        لكن، وبما أن مبدأ التحرير نفسه صار ورقةً في صراع المحاور، فثمة من يُجهّز التُهمة فورا في مثل هذه الأيام من الطرفين: فلو امتدحتَ مّن حرّر الأرض والبشر، فأنت فارسيٌ صفويٌ تابعٌ لحزب الله رغم ان مقاومة المُحتلّ بدأت منذ الأيام الأولى لاحتلاله وقدّم اليسار اللُبناني ألاف الشهداء، تُقابِلُها تُهمة ٌ أخرى من قِبَلِ الحزب وحلفائه، في حال شكّكت بأسباب التحرير أو لم تفرح به، بأنك خائنٌ وعميل.

الواقع أن الانقسام اللبناني ليس جديداً، فهو من عُمر لُبنان الصغير والكبير، وترسّخ أكثر في خلال وبعد الاجتياح الإسرائيلي الغاشم للُبنان في العام 1982، حيث سار قسمٌ من اللبنانيين في تحالفاتٍ مع العدو على أساس أنها السبيل الوحيد للتخلص من الوجود الفلسطيني المُسلّح وحلفائه من اليسار اللُبناني الذين كادوا يهزمون اليمين اللبناني المسيحي لولا تدخّل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في اللحظة المُناسبة وعبر صفقة مع الاميركيين لوقف ذلك (وفق ما نفهم من كتاب المستشارة الرئاسية السورية د. بثينة شعبان “حافة الهاوية” أو من مُذكّرات هنري كيسنجر او من وثائق دنيس روس) ، أو للتخلّص  من السوريين جيشاً وممارسةً.

ساهم في هذا الانقسام أن إسرائيل دعمت وصول بشير الجميّل الى رئاسة الجمهورية (والذي يجب أن نذكر للأمانة التاريخية أن مسلمين كثيرين انتخبوه أيضا في مجلس النواب وسارعوا لتهنئته، وهو المجلس نفسه الذي ارتفعت فيه أصوات تؤيد اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، وأصوات قليلة أو قل نادرة تجاهر بالرفض).

أما اليوم فهذه المُناسبة تأتي وسط احتلالات داخلية وخارجية كثيرة وعوامل قلق لا تُحصى ولا بُد من النظر اليها في لحظة الاحتفال:

فمع تخلُّص لُبنان من جورِ عدوّه على أرضه (مع بقاء بعض الاحتلال في مزارع شبعا الواجب توضيح ملكيتها رسميا بين لبنان وسورية، وفي تلال كفرشوبا ومناطق الغجر)، ما زال الوطنُ المُحرّر يعيش أسوأ الكوابيس من الفساد والفقر والتبعية وانهيار العُملة الوطنية ومؤسسات الدولة وقطاعات كثيرة ونهبِ مال الشعب…ناهيك عن عدم توفّر الكهرباء والماء والطبابة، وتدمير الجامعة اللبنانية وغيرها….  

لذلك وَجب التالي ليُستكمل التحرير:

  • وضعُ قانون انتخابي عادل وحديث ولا مذهبي، يُصبح فيه المواطن قادرا على التصويت لمن يشاء وحيثما شاء. وربما كان ينبغي على الثوّار الحقيقيين وهم كثيرون (وليس مُدّعي الثورة أو مدسوسي الأحزاب وبعض السفارات) في خلال انتفاضة 17 تشرين 2019، ان يبقوا في الشارع ويطرحوا مشروعا جاذبا لكل شرفاء الوطن لحمايته من الخارج والداخل، ويختاروا قيادة موثوقة، وينظموا ويوحّدوا صفوفهم، ويتحاوروا مع السُلطة من موقع القوة السلمية التغييرية المسؤولة لا أن ينخرطوا في النظام الانتخابي المذهبي ويتصارعوا على المقاعد. واليوم يأمل كثيرون ألا يضيع بعضُ النواب المُستقلّين (وهم في الحقيقة نادرون جدا إذا ما دقّقنا بمن صوّت لبعض مُدّعي الاستقلال الآخرين) في دهاليز النظام الذي سعى الى تجديد نفسه ونجح الى حد ما في البقاء.
  • الغاء الطائفية السياسية فعليا وليس قولا، وعلى مراحل، ذلك أنها كانت وما زالت مصدر الاستعباد الحقيقي للبشر وقتل مؤسسات الدولة على مذابح الطوائف والمذاهب.
  • اتفاقٌ وطني على كيفية مواجهة العدو، فثمة طرفٌ يطرح بقوة حاليا نزع سلاح حزب الله، وطرفٌ آخر يتمسك بهذا السلاح، وهذا يفترض الخروج من هذه الدوّامة عبر استراتيجية دفاعية وطنية جديدة تقول للناس بوضوح، كيف يُمكن مواجهة العدو، وكيف يُمكن تعزيز قدرات الجيش الممنوعة عنه حتى الآن الأسلحة القادرة على احداث توازن. فأنصار حزب الله يُخوّنون كل من يطرح مسألة السلاح، وخصومُهُم يريدون حصره بالدولة ويتهمونهم بأنهم صاروا دولة داخل الدولة. لكن أحدا من الطرفين لم يطرح حتى الآن صيغة مقبولة على المستوى الوطني العام لحماية الوطن وطمأنة الجميع، وهو ما سهّل ركوب المحاور على هذا الصراع وتوسيع هامش الانقسام الداخلي.
  • لا يُمكن استكمال الاحتفال بالتحرير اليوم، وسط ضبابية الصفقات المُتعلّقة بترسيم الحدود البحرية واستخراج ثروة الغاز. وهذا يتطلب موقفاً واضحا لمعرفة ماذا يجري فعليا، ولماذا أوحى لُبنان الرسمي بالتخلي عن الخط 29 (الذي طُرح رسميا في كل المفاوضات رغم أنه لم يُكتب) رغم ان الفريق المفاوض والذي في معظمه ينتمي الى الجيش اللبناني بذل جهوداً جبّارة لصد خبثِ إسرائيل ومخطّطاتها، فماذا لو كان ثمة من يبيع جزءا من حدود لبنان البحرية مقابل صفقة سياسية أو لرفع عقوبات وما غيرها في لحظة احتفال لبنانيين بعيد التحرير؟  
  • لا يُمكن استكمال الاحتفال بالتحرير، بلا سيادة وطنية في القرار، وليس الارتماء في أحضان المحاور. وبلا محاربة فعلية للفساد، والعمل على تأمين الشروط الدُنيا لكرامة الناس من كهرباء وماء وتعليم وطبابة وضبطٍ لسعر العملة الوطنية وضمانِ الشيخوخة وغيرها إضافة الى حماية الجامعة اللبنانية والمؤسسات التعليمية الرسمية.
  • لا يُمكن استكمال تحرير الأرض، الا بتحرير النفوس، فالتبعية العمياء الى حد التأليه للزعيم والقائد والمفتي والبطريرك والشيخ والخوري ورئيس الحزب (الذي غالبا ما يكون بالتوريث)، استعبدَ الناس الذين تحرّروا من نير الاحتلال الخارجي.
  • كيف يُمكن الحديث عن التحرر من عدو غاشم بفضل أبناء الأرض وسواعدهم، ثم القبول ب ” العبودية الطوعية” كما يقول الكاتب الفرنسي الشهير دولابويسي، او الرضى ب ” قابلية الاستعمار” الداخلي والخارجي، كما كان يُحذّر العالِم الاجتماعي والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي.

تحريرُ الأرض والنفوس واحد، والكرامةُ لا تتجزأ، وعلى كلّ لُبناني شريف ان يناهض الاحتلالات الداخلية من اهل السُلطة الفاسدة وداعميها من دول مُختلفة، وأن يساهم باستنهاض مشروع عربي حديث يُخاطبُ شباب اليوم (وهم الغالبية في الوطن العربي)، فيكون تحريرُ الأرض في قلبه وعقله موازيا تماما لتحرير الشعوب من عبوديةِ القرون الوسطى، ويُصارُ الى بناء  أوطان تحترم الانسان لأنه انسان وليس لأنه جزء من قطيع تبقى عبوديتُه ثابتة ويتغيّر الراعي.

يجب الاّ يسمح اللُبناني الحر الشريف، في يوم التحرير المجيد، بوجود من يُنزل دمعتَه ويضاعف غصّته، بدلا من رسم ابتسامة الكرامة على وجهه ووجه الأرض التي تحرّرت، وعلى مُحيّا شجر التين والعنب والليمون والزيتون والسنديان والأرز من الشمال الى الجنوب ومن البحر الى الجبل.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button