سامي كليب
استيقظتُ فجراً على صوتٍ انثوي غريب، كان ينسابُ اليَّ من القبو الواقع قربَ الطابق السُفلي لمنزلي. لم أفهم في البداية ماذا يقول، ربما لأني كنتُ في حالةٍ من اليقظة والنوم، لكن سُرعان ما اكتملت الجُملة الواصلة اليَّ:” أريدُ قليلاً من الماء، لو سمحتم، أريد قليلاً من الماء”. اعتقدتُ في بداية الأمر أني أحلُم، فلا يوجد في المنزلِ منذ عامين، غيري، ثم إن الطابق السُفلي شبهُ مهجورٍ لولا مرور المُزارع مروان من وقتٍ لآخر بغيةَ أخذ المُعدّات الزراعية أو البذور. لكن الصوتَ عاد مرّةً ثانية، وبنبرةٍ أعلى هذه المرّة: ” أرجوكم أريد قليلاً من الماء، لو سمحتم، أين أنت يا سيّدي تنقذني، أرجوكم هل يسمعني أحد”.
شعرتُ بشيء من القلق أو ربما الخوف، فتحتُ جارور الخزانة، رفعتُ بشيء من الارتباك ثيابي الداخلية، وأوقعتُ بيدي الراجفةِ زُجاجةَ العطر على الأرض، فنثرت رائحتَها حتى امتلأ المكان، وتناثرت قِطَعاً مجهرية من الزُجاج، لم أستطع شمّها، ولا لملمتُ زُجاجَها المُبعثر. حاولتُ فقط أن اتجنّبَه كي لا أجرحَ قدميَّ الحافيتين.
أخذتُ مسدّسي الصغير، لففتُ جسدي المضطرب بمعطفِ الحمّام، ونزلت الدرجَ كَمَن يتسلّل لاصطياد فريسةً في وضح النهار أو كسارق يدخلُ الى غرفة فيها أصحابُها نيامٌ ويحاذر ايقاظَهم.
كلما نزلتُ درجةً ارتَفَعَت نبضاتُ قلبي وأنا اكرّرالبسملة وقراءة المعوّذات وكلّ ما تيسّر لعقلي من القرآن والانجيل في هذه اللحظات التي بَدَت دهراً.
فتحتُ بابَ القبو بهدوء، فارتفع الصوتُ فجأة حتى كاد قلبي يطير ُ من صدري: “اريد قليلا من الماء، ارجوكم “. ارتدّ جسدي الى الخلف، وامتدّت يدي الشاهرةُ المُسدّسَ صوب َالصوت:
فركت ُ عينيَّ غيرَ مُصدِّقٍ ما أرى. اقتربتُ قليلا، فارتفع صوتُ النعجة أكثر. قلتُ بصوت عالٍ: لا بُدّ أني أحلم. فسارّعتِ النعجةُ للقول بكثير من اليقين وربما بشيء من السُخرية على حالي:” لا يا سيدي انت لا تحلم، فقط اريد قليلا من الماء “..
هدأ روعي قليلا، بسملتُ مرة ثانية، اخذتُ وعاء الماء وقرّبته منها، شَرِبَت كلَّ ما فيه بلمح البصر، ثم شكرتني، وابتسَمَت وصَمَتت. رحتُ أتأملُها وربما هي أيضا كانت تُفكّر بتأملي، فقد امّحت حدودُ المنطق بيننا، واختفت الفروقات، وبتنا مُتشابهَين.
سألتُها كمن يتحدث في منام او كابوس: منذ متى تنطقين مثلنا؟ قالت انها لا تدري، وأنها لو نطقت او لم تنطق فلا فرق عندها طالما انها تحصل على الأكل والشرب حين تجوع وتعطش.
اقتربتُ منها أكثر، وضعتُ يدي المرتجفة على رأسها، ارتدّت قليلاً الى الخلف، ثم عادت الى مكانها ودسّت رأسها تحت يدي طالبةً المزيد.
كان جسدُها دافئا أكثر مما اعتقدتُ، أو ربما يدي كانت باردة أكثر مما ينبغي، قلت: لماذا لم تخرجي بحثا عن الماء بدلاً من الصُراخ والاستغاثة من قبوٍ مهجور، ربما ما كان أحدٌ سيسمعك فيه.
قالت: منذ ضيّعتُ سيدي راعي قطيعنا، وانا هائمةٌ لا اعرف ماذا افعل. فهو كريمٌ معي ومع اشقائي وأخواتي، غالبا ما يأخذنا الى مراعٍ جميلة وفيها أكلٌ وفير. وسيّدي دائم الاهتمام بنا، لكني لا أعرف أين يختفي أخوتي بين وقت وآخر، ولا أسأل بطبيعة الحال، فهو الأخبر والأعلم والأذكى والأكثر قدرة على إدارة القطيع، وهو منزّه عن الخطأ، فلماذا نشغُلُه بأسئلتنا الغبية؟
لم تعلّق النعجةُ الناطقة على ملاحظتي الأخيرة، ولعلّها لم تشأ سماعَها. شكرتني على بعض الماء الذي قدّمته لها، واعتَذَرت لأنها اقتحمت قبو بيتي عنوة. خَرَجَت من القبو، تثاءبَت قليلا، رفعت عينيها صوب السماء والشمس التي كانت اشعتها قد بدأت تتسلل من خلف الجبال ثم خفضت رأسها وأكلمت سيرها بحثاً عن سيّدها لتمنَحّه ما وهبا الله، بانتظار ذبحِها.
وقفتُ أتأملُها تغيبُ عن ناظري. أدركت حينها أن ثمة أصواتاً خُلقت للعبودية الطوعية، واصواتا أخرى خُلقت لتصدح بالحريّة، فسيّان لو بقيت النعجةُ المسكينة تثغو ككلّ الغنم، أو صارت تنطق كباقي البشر، ليس صوتها الا خطوة إضافية صوب الذبح الحتمي والطوعي لأجل سيّدها. وهي قابلةٌ بذلك.
ملاحظة: هذا النص ليس له علاقة بالانتخابات اللبنانية أو العربية حتى ولو تشابهت الوقائع والأسباب والنهايات. هو مُجرّد حوار مع نعجة، وما أكثر النعاج المقهورة والمظلومة التي تدعو لقاهِرها وظالِمها بطول العمر.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…