ماذا تربح تُركيا من تجدّد صراع غرب/شرق؟

الآن دفوني-لبنان

مع التراجع النسبي لنفوذ الولايات المتّحدة قياسا” عمّا كان عليه بُعَيد انهيار الإتّحاد السوفياتي، تزايد استعمال مصطلح “شرق/غرب” كتعبير عن “اشتباك” متصاعد بين معظم دول آسيا من جهة، وأوروبا ودول الكومونولث من جهة أخرى. يتلخّص هذا “الإشتباك” بمحاولة “الشرق” تعبئة فراغ التراجع الأميركي، مقابل محاولة الأميركيّين توكيل دور تعبئة هذا الفراغ لحلفائهم الإقليميّين.

في ظلّ هذه الفوضى الدوليّة، برزت تركيا بموقعها الجغرافي، وسلوكها السياسي والأمني، وبنفوذها الديني-الثقافي، قوّة صاعدة ومؤثّرة في العديد من الأحداث، فتصالحت مع “الأعداء” حينا”، وخاصمت “الحلفاء” أحيانا”، واستفادت من اللّعب على التناقضات واتّباع سياسة “حافّة الهاوية”، فنجحت سريعا” بحجز موقع متقدّم في النظام العالمي قيد التشكيل. سنستعرض فيما يلي ثلاث نقاط قوّة كفيلة، برأينا، أن تجعل دور تركيا يتعاظم باستمرار على الساحة الدوليّة.

1- البراغماتية:

مع رفض الإتّحاد الأوروبي قبول عضويّتها لأسبابٍ ديموغرافيّة-دينيّة من جهة، وفي ظلّ وجودها كعضوٍ فاعل في حلف الناتو، أدركت تركيا أنّ “الغرب”  يحاول جعل دورها يقتصر على احتواء روسيا ومنعها من التمدّد في المتوسّط. لذلك،  إتّبعت سياسة في معظم الأحيان “هجوميّة”، قائمة على فرض وقائع في الميدان، مبتعدة” عن سياسة ردّة الفعل، ما مكّنها من مراكمة العديد من الأوراق التفاوضيّة مع كلا المحورين المتخاصمين.

فنراها على سبيل المثال، على خصام مع روسيا في سوريا وأرمينيا، ومتصالحة معها عبر شرائها منظومة الدفاع “اس-400″، وحليفة لها عبر ما أسمته “ترسيم الحدود البحريّة مع ليبيا”، ما أغضب حلفاءها في دول الناتو واسرائيل.

2- الطموح لقيادة السُنّة؟

أ – يتركّز العدد الديموغرافي الأكبر للسنّة في شرق وجنوب شرق آسيا (اندونيسيا، بنغلادش …)، إلّا أنّ هذه الدول لا تطرح أي مشروع “إسلام-سياسي”، ولا تبدو مهتمّةً بلعب دورٍ فاعل خارج حدود الإقليم الذي تنتمي إليه.

ب – من جهتها، تبدو الدول العربيّة غارقة، أو بالحدّ الأدنى خارجة، من إضطرابات وحروب، من اليمن إلى سوريا والسودان وليبيا والعراق والصومال. يضاف إلى ذلك، انكفاءً  سياسياً مصريا لم يتغيّر فعليا الا في السنوات الثلاث الماضية حيت عادت القاهرة تلعب دوراً أكبر في عدد من الازمات من ليبيا الى لُبنان وفلسطين، بينما حين اندلعت الحرب في سورية أو اليمن، كادت القاهرة توحي بأنها تسير في ركب دول الخليج وليست القائدة، أما في لُبنان فرغم كل مساعيها لحلحلة الأوضاع بالتعاون مع فرنسا، الا ان هذه المساعي بقيت أقل بكثير من امكانية تعديل وجهة نظر الخليج أو ترتيب البيت الداخلي اللبناني، وذلك لأن الهم المصري الأول لعهد الرئيس عبد الفتّاح السياسي بقي متمحوراً على تحسين الوضع الاقتصادي الداخلي وانهاء فلول التطرف الاسلامي من سيناء الى القاهرة.  

ج – أمّا في المحيط الشرقي لتركيا، فإن أنقرة، تسعى لتوسيع نفوذها في آسيا الوسطى عبر الدين واللّغة، ومنح الهويّة التركيّة لكلّ من يتكلّم لغتها، أو لِمن هو من أصولٍ تركيّة. إنّ تلك المنطقة الإستراتيجيّة التي تتوسّط الصين والهند وايران وروسيا، تجعل من تركيا “السنّيّة”، حاجة “لمحور الشرق”، بغية ضمان استقرار الحدائق الخلفيّة لكلّ تلك الدول. وهي فعلت الأمر ذاته في مناطق سيطرتها في سورية، حيث عزّزت اللغة التركية وراحت تمنح الجنسيات وتؤسس المدارس التركية. 

د – في الجانب السياسي والأمني، تدعم تركيا تنظيم الإخوان المسلمين في العديد من الدول العربيّة كليبيا وتونس ومصر والمملكة المغربية ( حزب العدالة والتنمية)، بالإضافة إلى ذلك، ترعى جبهة النصرة، التي تؤكد أكثر من دراسة موثقة أنها أصبحت أقرب إلى “ذراع عسكريّ” لها، ينفّذ أجنداتها خارج الحدود (مثلا” في سوريا وليبيا)، وهي أحدثت خرقا كبيرا في مجلس التعاون الخليجي والدول العربية من خلال الارتباط عضويا بقطر التي تصدّرت القرار العربي لسنوات من جهة، وتعزيز علاقاتها البينية مع إيران من جهة ثانية. 

ج: كذلك في الجانب الافريقي، يُلاحظ منذ سنوات تمدد تركيا على أكثر من مستوى، فهي اذ ذهبت مثلا الى الصومال حين انكفأ العرب، ووطدت علاقاتها مع الحركة الاسلامية السودانية قبل الاطاحة بها في ثورة السودان الأخيرة، فهي وسّعت جدا علاقاتها مع القارة السمراء، ويكفي أن نطلع على وثائق قمة الشراكة الثالثة الافريقية التركية التي عُقدت في أسطمبول في 2021 لنُدرك أن العلاقات تطورت على نحو كبير، ومنذ تصنيف الاتحاد الإفريقي لتركيا “كشريك استراتيجي” قبل 14 عاما، افتتحت أنقرة 43 سفارة تركية و19 ملحقاً عسكرياً في القارة الإفريقية، ناهيك عن أكثر من 150 مدرسة وآلاف المح التعليمية ومئات الشركات. 

3- موقعها الجغرافي الإسترايجي:

أ – تقع تركيا على تقاطعٍ بين “الشرق والغرب”: فهي حاجة صينيّة لإيصال منتجاتها إلى أوروبا بأقلّ كلفة ممكنة من خلال مشروع “الحزام والطريق” من جهة، وحاجة روسيّة بغية الوصول إلى المتوسّط من جهة أخرى، وحاجة أميريكيّة بالمقابل لإحتواء جزئيّ إقتصادي وسياسي للعملاقين الآسيويّين.

ب- نفطيّا”، تملك تركيا مروحة واسعة من الحلفاء، ما يمكّنها من حماية أمنها الطاقوي من جهة، ومن التأثير على الأمن الطاقوي لدول الجوار من جهة أخرى وذلك للأسباب التالية:

أوّلا”، يحدّها ثلاث دول نفطيّة كبيرة: ايران روسيا والعراق، وبالتالي يمكنها تنويع مصادر الطاقة دون تكبّد أكلاف استجرارٍ مرتفعة.

ثانيا”، سيطرتها على “قبرص التركيّة” والتي يمكن استخدامها كورقة ابتزاز ومقايضة فيما خصّ الثروات المدفونة في بحر المتوسّط.

بالإضافة إلى ذلك،فإنّ تركيا لها حليفة “ماليّة وغازيّة” من “الطراز الرفيع”، نعني بذلك دولة قطر.

بالمقابل، تتقاطع مصالحها مع روسيا وليبيا عبر مدّ أنابيب بغية استجرار النفط والغاز الروسي والليبيي إلى الدول الأوروبيّة.

في المحصّلة، وبناء” على ما تقدّم، وفي ظلّ هذه الفوضى في العلاقات الدوليّة من جهة، وبفضل إحترافها وإتقانها لسياسات “حافّة الهاوية” من جهة أخرى، نرى أنّ تركيا هي من أكبر المستفيدين من هذا الواقع.

في هذا المخاض، وفي المسيرة إلى نظام عالمي جديد، نعتقد، أنّ دور تركيا قد يلامس أحيانا” دور بيضة القبّان بين “الشرق والغرب”، فترجّح كفّة أحد المحورين على الآخر “على القطعة”، بما يتناسب ومصالحها، فتزداد حاجة الطرفين لها، فتفاوض وتبتزّ وتخاصم وتصالح، ويزداد هامش مناورتها، ويعظم دورها ونفوذها على المستويين الإقليمي والدولي.

 من يقرأ كتاب ” العمق الاستراتيجي” لوزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو، يُدرك أن طموح تركيا هو أكبر بكثير من كل ما تقدّم،  لكن القلق من توسّعها من على الصهوة الاسلامية عزّز قلق الجيران وأوروبا ودول كُبرى ودفع هؤلاء للتعاطي بحذر معها أكثر من الترحيب في الكثير من المرّات. وفي جميع الأحوال فإن أردوغان فرض بلاده لاعبا محوريا على مستوى الاقليم والعالم وسط كل العواصم والاضطرابات. 

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago