هادي جان بو شعيا
من راقب بتأنٍّ المشهد الانتخابي الرئاسي في فرنسا، يُدرك أن لحظة الانتخابات الرئاسية في دورها الأول، لم تكن استثنائية، لا بل أعادت المشهد نفسه الذي شهدته انتخابات الرئاسة في العام 2017، وأن النتيجة لن تكون مغايرة بشكل كبير لما عرفته نتائج انتخابات الرئاسة السابقة، وأن الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون سيتصدر المشهد، ذلك أن الخارطة السياسية الفرنسية ستشهد تحالفًا لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى قصر الإليزيه.
النتائج تقول ذلك، والحركية التحالفية الأولية، تزكّي هذا السيناريو المحتمل تكراره، لكن، ما وجب الانتباه إليه في نتائج هذه الانتخابات، أن اليمين المتطرف، بطيفيْه، تعدّى بشكل كبير الأرقام التي حازها في مساره الانتخابي في الرئاسيات.
لقد كان ملاحظًا أن ماكرون كان آخر الواصلين من بين المترشحين لينتخب نفسه. أما عدوّه اللدود ومصدر أبشع كوابيسه مارين لوبان بدت وكأنها تنتظر شروق صباح يوم الانتخابات على باب أحد المراكز الانتخابية لتكون أوّل من ينتخب نفسها، مع حلم الوصول إلى قصر الإليزيه بعد تجربتين مريرتيْن فاشلتيْن.
من بين اثني عشر مرشحًا للانتخابات الفرنسية، كان الجميع على علم، حتى قبل إدلاء أول مقترع فرنسي بصوته، بأن المعركة المحتدمة في جولة الإعادة والمحددة في 24 من نيسان/أبريل الحالي هي بين ماكرون زعيم “الجمهورية إلى الأمام” الوسطى ولوبان مرشّحة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف.
بيد أن الحرب الحقيقية داخل فرنسا لا تقتصر على الفرنسيين أنفسهم، بل يدور بعضُ رُحاها بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية أي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة، والرئيس الأميركي جو بايدن من جهة أخرى، اللذين إذ تحاربا بالعسكر ودعم الجيوش والعقوبات المتبادلة على جبهات أوكرانيا الملتهبة، يتحاربان اليوم باللعب والتأثير على الانتخابات الفرنسية، حيث تُلقي أميركا ومعها أوروبا بثقليهما دعمًا لماكرون خشية فوز لوبان؛ التي عبّرت مرارًا وجهاراً عن إعجابها ببوتين ودعمها له. ولم ينفع تراجُعُها اللاحق عن هذا الدعم في التخفيف من وسمها بأنها قريبة من سيد الكرملين.
وإن لم تغب عن الانتخابات الفرنسية، كما جرت العادة، أجندات معاداة المهاجرين و”الإسلاموفوبيا” واللعب على أوتار العنصرية؛ إلا أن تزامن الانتخابات مع توجّه العالم برمّته نحو فظائع الغزو الروسي لأوكرانيا، غيّر بعضًا من قواعد لعبة الانتخابات الفرنسية لعام 2022، خصوصًا مع تكرار مواجهة لوبان وماكرون في جولة الإعادة لتمثّل محاكاة لسيناريو إنتخابات عام 2017، ولكن بمعطيات مختلفة جدًا تجعل من شبح اليمين المتطرف كما ويلات الحرب تخيّم على فرنسا خصوصًا، وعلى أوروبا عمومًا. في وقت ينكفئ اليسار الفرنسي مكتفيًا بتمثيل مشرف لزعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون.
اليوم، وبانتظار دورة الإعادة بين لوبان وماكرون تقف، ليس فقط فرنسا، بل أوروبا وأميركا ومعهما روسيا على قدم واحدة في ترقّب لمن سيحسم الحرب: ماكرون-بايدن أم لوبان-بوتين؟
ذلك لأن فوز لوبان، من وجهة نظر واشنطن، يزعزع الاستقرار الغربي ضد موسكو، ما يعني أن فوز مارين لوبان يشكّل أكبر انتصار لبوتين في باريس، في حين يعلم القاصي والداني مدى إعجاب لوبان ومعها جميع اليمين الأوروبي المتطرف ببوتين، الذي سيقلب حال فرنسا ومواقفها إن فازت لوبان بالانتخابات لتنتقل فرنسا كقوة أوروبية رائدة بالتحالف ضد الكرملين إلى دولة حليفة لروسيا ومعادية لأوكرانيا وكييف والغرب بأسره.
الأمر الذي سيؤدي إلى انسلاخ فرنسا عن محيطها والتنكّر للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وحتى للتحالف مع واشنطن، وبالتالي دفع بعض قادة “الناتو” الآخرين لاتخاذ مواقف جديدة بشأن بقاء التحالف. ورغم أن حكومة ماكرون كانت تحاول مسك العصا من المنتصف عبر لعب دور الوسيط في الأيام التي سبقت غزو بوتين؛ إلا أن فرنسا ظهرت بعد ذلك كداعم كبير للأوكرانيين بالأسلحة والمساعدات.
ولكن في حال فوز لوبان، لن تستطيع واشنطن اعتبار هذا الانتصار إلا انتصارًا سياسيًا جديدًا لبوتين يُعينها على الانتصار في حربه على أوكرانيا، في ظل مخاوف من انقلاب زعماء أوروبيين آخرين حال انقلاب فرنسا مع وصول اليمين المتطرف الداعم لبوتين إلى فرنسا بعد أن كان هؤلاء الزعماء بالفعل مترددين بشأن مواجهة روسيا، ما يعني أن فرصتهم ستحين للنأي بنفسهم عن تبعات اقتصادية كارثية حال قررت روسيا التي تزوّد أوروبا بمعظم غازها اغلاق صنبور الطاقة عن كل الدول التي تعاديها.
وفيما تشير استطلاعات الرأي إلى أن لوبان ستخسر بفارق ضئيل؛ إلا أن إعادة انتخاب ماكرون بأصوات خجولة ما زال مخيفًا لأوروبا وأميركا، خصوصًا مع تصاعد أسهم اليمين المتطرف والشعبويين في أوروبا، ناهيك عن احتمال امتداد الحرب الروسية-الأوكرانية لتضحى صراعًا طويل الأمد، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء أوروبا التي تعتمد على موسكو للحصول عليها، ما يعني تأثيرًا متعاظمًا لليمين المتطرف الداعم للتقرّب من روسيا بدليل تصريحات لمارين لوبان التي قالت: ” نرفض أن نموت إقتصاديًا بسبب هذه الحرب” والتي رفضت قطع واردات النفط والغاز مع روسيا وفق مبررات على رأسها قول لوبان: ” علينا أن نفكّر في شعبنا. أما سياسيًا، فلم تجد لوبان غضاضةً بأن تقول قبل أسبوعين من الانتخابات: “إن بوتين يمكن أن يصبح حليفًا لفرنسا مرة أخرى عندما تنتهي الحرب”. الأمر الذي يذكر بموقف لوبان الداعم لروسيا عند غزوها شبه جزيرة القرم عام 2014.
كل هذا دفع تقارير استخبارية لتسليط الضوء على أدوار محتملة لروسيا للتدخل بالانتخابات الفرنسية عبر حملات دعائية، مصحوبةً بهجمات سيبرانية دعمًا للوبان في وجه ماكرون في محاولة لإيصال اليمين المتطرف إلى الإليزيه وفي محاكاة لدورها في التدخل بالانتخابات الرئاسية الأميركية حينما واجهت موسكو اتهامات بإيصال الرئيس اليميني السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حتى بلغ الأمر بتقارير لاتهام موسكو بالوقوف خلف إثارة فضيحة مالية لماكرون قبل أسابيع من انتخابات الرئاسة، متهمةً إياه بإنفاق مبلغ 2,6 مليار دولار أميركي على شركات مالية خاصة تخلّفت عن دفع ضرائبها في فرنسا في مخالفة صارخة للقانون الفرنسي. إذ يبدو أن واشنطن لم تقف مكتوفة الأيدي لأن هذه الشركات التي يعتمد عليها ماكرون هي شركات أميركية وعلى رأسها شركة “ماكينزي آند كومباني”.
مما لا شك فيه أن التفسير الذي يفرض نفسه على نتائج الدور الأول من الرئاسيات الفرنسية، يشي بأن حال اللايقين تتعاظم شيئًا فشيئًا في فرنسا نتيجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن تنامي أزمات الأمن الغذائي والأمن الطاقي والأمن الدفاعي، ومراوحة المشاريع الاقتصادية الإقلاعية للمكان بسبب تواتر الأزمات العالمية على غرار جائحة كورونا ومن ثم الغزو الروسي لأوكرانيا. عوامل من شأنها أن تدفع إلى تنامي تيارات التطرف اليميني واليساري.