مرح إبراهيم ـ ألمانيا
في ظلّ ربيعِ الانتخاباتِ الرّاهنةِ، شرقًا وغربًا، تنهالُ الخطاباتُ والشعاراتُ الرنّانة صوتًا وصورةً على الجماهير، هادفةً إلى اكتسابِ ما استطاعت من أصواتهم في يوم الحَسم. ذلك أنَّ لِلخطاب السياسيّ قوّةَ تأثيرِ كبيرة في الجماهير وعالَمِها النفسيّ، فهو يشكّلُ أداةَ التواصلِ الرسميّةِ والأساسيَة في العلاقة الوثيقة بين الطّرفين. قد يضطلِع الخطابُ دورًا لا يستهان به في توجيه الرأي العام أو ضبطه، وهذا إنّما يُثيرُ إشكاليّة تحرّر هذا الرأي الجمعي من قيود الموروث الفكري والعقائدي، وتطلُّعِه إلى التغيير والتقدّم.
يرى أرسطو أنّ ثمَّةَ ثلاثةَ عناصرَ رئيسةٍ تكوّنُ الخطابَ، وتقِف وراء فعاليّته وقُدرته على الإقناع. العنصر الأوّل ماثِلٌ في اللوغوس logos، أي منطق اللُّغة. والعنصر الثاني ماثلٌ في الـethos، أي أسلوب التصرّف والصورة التي يقدّمها المتكلّم عن ذاته لمتلقّيه. أمّا العنصر الثالث، فهو الـpathos، الناتج عن الجوِّ الشعوريّ العاطفيّ، الخاص بالتفاعُل مع الخطاب والتأثُّر به.
ولعلّ مفهوم الـethos أكثر هذه المكوّنات الثلاث تركيبًيّةً، فإذا راعينا أن جذر الكلمة يعود إلى “الأخلاق” éthique، يتبيَّن لدينا أنّ المتحدّث يسعى من خلاله إلى إسقاط صورةٍ عن ذاته، بناءً على علاقةٍ بينية تقوم على العقل والعاطفة في آن معًا.
يستند الخطابُ إذًا، بتفاوت، إلى نسبةٍ من العقلانية المترجمةِ بحججٍ منطقيّة بحتة من جهة، ونسبةٍ من الشعوريّة ونقلِ صورةٍ عن الذات، من شأنها إثارة الألفة ونوع من التقمُّص العاطفي لدى الجمهور، من جهةٍ أخرى. كذلكَ تُبنى الثقةُ بين أطراف العمليّة الخطابيّة. لكن في إطار هذه العمليّة المبنيّة بإحكام، إلى أي حدّ يبقى الخطابُ منفتحًا على أُفقٍ أوسع، في ظلّ العلاقة الإشكاليّة بين الخطيبِ والمُخاطَب؟
يستهلُّ عالم الاجتماع والطبيب Gustave Le Bon كتابَه “بسيكولوجيا الجماهير” بفكرةِ الأهميةِ الجوهريّة لأفكار الشعوب في التحوّلات الهائلة التي تطرأ على الحضارات، إذ يقول: يبدو للوهلة الأولى أّن الاضطرابات التي تسبقُ التغّيرات الحضاريّة تحدّدها تحولات سياسيّة حاسمة، كغزو الشعوب أو الإطاحة بالسلالات الحاكمة، لكنّ الدراسةً المتأنية لهذه الأحداث غالبًا ما تكشف أنّ السّبب الحقيقي وراء الأسباب الظاهرة يكمنُ في التغيّر العميق الذي تشهدُه أفكار الشعوب. الاضطرابات التاريخّية الحقيقيّة ليست تلك التي تذهلنا بحجمها أو مدى عنفها. التغييرات المهمة الوحيدة، التي ينشأ عنها تجدّد الحضارات، هي تلك التي تحدث في الآراء والمفاهيم والمعتقدات. الأحداث التي لا تنسى هي آثار التحوُّلات، المرئية في تحوّلات مشاعر البشر، غير المرئية.
انطلاقًا من هذا الاستنتاج، يجدر التساؤل عمَّا إذا كان الخطاب السياسيّ (لاسيّما في العالم العربيّ) يرسّخ الأفكار والآراء الثابتة، أو ما يُعرَف بالرأي العام (doxa)، أم يسهم في تحريرها من قيودها العديدة. يسعى الخطاب من خلال المكوّن الشعوري إلى خلق الانتماء لدى المتلقي. هذا الانتماء قد يقود في الحالات القصوى إلى تماهي المتلقي مع المتحدّث، ضمن حلقةِ ثقةٍ مفرغة، يحاول الخطيبُ من خلالها الحفاظَ على الثقة المكتسبة واحتواءَها، فيما يتمسّكُ بها المتلقي في إطار انتمائه واستقراره الإيديولوجيّ. وهذا قد يؤدي إلى أشكال عديدة من الانطوائية، أكانت سياسيةً، أم فكريّةً أم عقائديّةً أم طائفية. وغالبًا ما ينتج عن هذا الانطواء انحلالُ الحجّة مقابل العاطفة والانتماء والتماهي والانحياز. نرى مثلًا في معظم بلدان العالم العربيّ، تماهيًا مع شخص القائد الأوحد المعصوم عن الخطأ، كما تغذّي الخطابات هذا التأليه الذي لا يؤدي إلا إلى انسداد الأفق نحو التطوّر. أمّا في الغرب، فالعلاقة بين السياسيّ والشعب تميل إلى العقلنة ومضمون البرامج المطروحة، ولو أننا نلاحظ، في ظل الانتخابات الحاليّة في فرنسا، أن الخطاب الشعبوي لا يزال مؤثرًا في العقول.
يخلق الخطيبُ إذُا مسافة بينه وبين الواقع الذي يتحدَّث عنه. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن تلك المسافة التي تفصِل بين الواقع والحقيقة في الخطاب السياسيّ كما في الخطاب الإعلاميّ. ففي هذَين النَّوعَين من الخطاب، رُبَّما لا تكون الحقيقة أكثر من قِناع يفصل حقيقة المُتكلِّم عن مضمون خِطابه.
من الصعب، دونما شكّ، تخيّل خطاب سياسيّ قائم فقط على المنطق، يتمحور حولَ استقلاليّة عقلانية لا تحتملُ أي شكل من أشكال التواصل، عادَّةً أن الشعوريّة المرتبطة بالعلاقة البينية الذاتية قد تشوبُ نقاء الحجج المنطقيّة. وبالمقابل، لا يمكنُ للجانب الشعوريّ أن يتولّى عمليّة الإقناع كلَّها دون حجج يستند إليها، إلا في حال معرفة الانتماء الأعمى الذي يتجلّى أحياناً عند الملتقّي، وحال التلاعب به (والأمثلة عديدةٌ في العالم العربيّ).
تضعُ مدرسة أمستردام في تحليل الخطاب، التفاعلَ في قلب نظريتها، وهي التي تعتبر الحجّةَ النشاطَ اللفظي والاجتماعي للعقل. وقد يكونُ تطبيقُ هذه النظريّة المتمحورة حول التفاعل، على العملية الخطابية السياسية، بابًا للخروج من حلقة الخوف المفرغة، الخوف من فقدان الثقة، وباباً للخروج من منطقة الراحة الراكدة. ولعلَّ من المجدي أن نضع هذه الثقةَ في محاور التغيير، بدلًا من إسنادها إلى الثوابت والقناعات الراسخة. أي أن العلاقة البينيّة لا ترتبطُ فقط بالجانب العاطفي بين الأطراف، بل قد تُسهِم إلى حدٍّ بعيد في تعزيز الحجج أو في تعديلها وانفتاحها على أفقٍ أوسع.
ولعلّ العصر الذي نعيشه اليوم (عصر طفرةَ التواصل الاجتماعيّ، الذي كسرَ الحاجز بين الخطيب والجمهور، بين السياسيّ والشعب، من خلال المنصات الافتراضية) قد يكون أكثر العصور تحفيزًا على التفاعل بين مكوّنات المجتمع قاطبةً.
Références :
Blay, Michel (dir ), Grand dictionnaire de la philosophie, Larousse, 2003.
Amossy R. (dir), Dimension rationnelle et dimension affective de l’ethos, Presses universitaires de Rennes, pp 113-125.
Amossy R. (dir), Images de soi dans le discours. La construction de l’ethos, Genève, Delachaux et Niestlé, 1999.
Le Bon, Gustave, Psychologie des foules, 1895.
Souriau, Etienne, Vocabulaire d’esthétique, Presses universitaires de France, 1990
الكاتب: مرح إبراهيم
باحثة جامعية في مجال الخطاب ومترجمة
تُنهي رسالة دكتوراه في ألمانيا
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…