قمة النقب…هل فعلا ستواجه إيران؟
التقرير الاستراتيجي الاسبوعي
جان بيار سيباغ-باريس *
لو ابتعدنا قليلا عن منطق التأييد أو التخوين، وعن الفرق بين نبض معظم الشعوب العربية ومصالح الدول، كيف نقرأ قمة النقب التي تشابكت فيها أيادي مسؤولين عرب مع آخرين إسرائيليين (كما يتضح في الصورة) بضيافة وزير الخارجية الإسرائيلي وحضور وزير الخارجية الأميركي؟ هل فعلا أن ما جرى تحت الخيمة يُمهّد لمواجهة إيران كما روّج الاعلام الإسرائيلي؟ وهل ثمة إمكانية واقعية لمثل هذه المواجهة؟ أم أن للصورة رسائل أخرى بأكثر من اتجاه؟
لنفترض أولا أن القرار هو مواجهة إيران؟
كيف سيتم ذلك؟ هل بالحرب مثلا؟ إذا نحن سنكون أمام تدمير كوارثي لن تقوم منه المنطقة قبل 100 عام؟ فمن يستطيع تحمّل هكذا ثمن؟ لا أحد على الأرجح.
هل بالعقوبات؟ تم تجريب هذا الأمر لعقود طويلة، لكن النتيجة أن إيران طوّرت أسلحتها (خصوصا الصواريخ) وتقدّمت سريعا في مجال التكنولوجيا والسايبرنت، وتمدّدت أكثر من أي وقت مضى في الكثير من الدول العربية، وباتت قادرة على انتاج سلاح نووي (هذا إن لم تكن قد انتجته بعد). ولو ان العقوبات كافية لما عادت واشنطن للتفاوض مع طهران على البرنامج النووي.
لنسأل ثانيا: هل دول المنطقة متفقة أصلا؟
- مصرُ مثلا التي عقدت اتفاقية كامب دافيد منذ نحو 43 عاما، حافظت شعبيا على مسافة شاسعة بين قرارها السياسي بالسلام من جهة، والانفتاح الحقيقي على عدو الأمس من جهة ثانية، فالشعب المصري ما زال حتى اليوم يرفض أي وجه للتطبيع. وأولى خطوات الثورة التي أطاحت الرئيس السابق حسني مُبارك كانت تحطيم واجهة السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم عنها، ثم ان النقابات الفنية والثقافية غالبا ما تُعاقب أي شخص يجنح للتطبيع، كما أن لا السفير الإسرائيلي ولا أي موظف من سفارته يستطيع التنقل بحرية في شوارع القاهرة وغيرها.
يؤكد عارفو مصرَ عن قرب، أنها كانت بالأصل مستاءة جدا من التوسع السريع للتطبيع العربي في عهد دونالد ترامب، خشية من انفلات الأمور أولا، وقلقا من أن يُصار الى تهميش دورها في فلسطين والمنطقة على حساب أدوار جديدة.
فهل أن مصر حضرت قمة النقب، لمواجهة إيران فعلا، أم لعدم السماح لغيرها من العرب باحتلال مكانها.
- الأردن ثانيا غاب عن القمة رغم أنه أقرب القادة العرب المعنيين بوضع فلسطين . يقول الكاتب عُمر كلّاب في مقاله في صحيفة ” الرأي” الأردنية الصادرة اليوم:” إن لقاء النقب وأجندته، لا يقتربان بأي حال من الأجندة الأردنية سواء على المستوى الوطني أو المستوى الإقليمي والقومي، فجاءت الإجابة سريعة على الاستمزاج بأن الأردن لن يحضر، بل سيكون الملك في رام الله، في رسالة هي الأكثر أهمية وضوحا”. وبالفعل فما ان شارفت قمة النقب على النهاية حتى حط الملك عبدالله الثاني في رام الله والتقى الرئيس محمود عبّاس في رسالة واضحة، اكملها رئيس الحكومة الفلسطينية باعتبار :” لقاءات التطبيع العربي دون انهاء الاحتلال الإسرائيلية، ما هي الا وهم وسراب، ومكافأة مجانية لإسرائيل”. معروف ان الأردن كان الأكثر قلقا على وضعه الداخلي لو تمت صفقة القرن، لانها كانت تعني تهجير قسم جديد من أبناء الضفة الغربية الى الأردن.
- ماذا بشأن سورية؟ هل ثمة وساطة إماراتية فعلية لاطلاق عملية التفاوض الإسرائيلي-السوري؟ أم ان الامارات تلعب الورقة السورية في لحظات مُحدّدة. ففي فترة اعلان التطبيع مع إسرائيل، اعادت أبو ظبي فتح سفارتها في دمشق، ورفعت مستوى التبادل التجاري مع إيران بأكثر من 20 بالمئة، وقبل القمة السداسية في النقب، استقبلت بترحاب كبير الرئيس السوري بشّار الأسد. الأكيد أن دمشق لم ولن تقف ضد إيران بأي شكل من الاشكال، وبأنها تشترط موافقة إسرائيل على إعادة الجولان للبدء بالتفاوض، لكنها لم تندّد بقمة النقب، واكتفت أثناء التطبيع الاماراتي الإسرائيلي بموقف خجول. والأمر هنا مفهوم من وجهة نظر المصالح السورية، ذلك أن الأمارات هي أكثر الدول الخليجية التي تُعوّل عليها دمشق كقاطرة أولى في إعادة الاعمار المأمولة.
- وماذا عن السعودية التي لم تحضر قمة النقب لأنها لم تُطبّع رسميا مع إسرائيل؟ هل هي مؤيدة فعلا لتوسّع الدور الاماراتي بكل الاتجاهات وان المُحمّدين (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) يُنسقان المواقف، أم أنها تفيد من كل ذلك في سياق رفع مستوى التحدّي لإدارة بايدن وتُدرك ان تأييدها الضمني لحركة الإمارات ستصب في صالحها.
كان لافتا مثلا انه بعد مقابلات ولي العهد السعودي التي انتقد فيها بشدة الولايات المتحدة، وبعد الموقف اللافت للرياض وأبو ظبي في الأيام الأولى للحرب الأوكرانية والذي أوحى بأنه أقرب الى موسكو من كييف، تعمّدت السعودية ليس فقط التعامل بفوقية مع الزائر البريطاني رئيس الوزراء ، وإنما أيضا إعدام 81 شخصا قبيل وصوله.
يُريد بن سلمان القول إنه حجر الرحى في الخليج، وإن البدائل عن أميركا وبريطانيا موجودة في الصين وروسيا وغيرها، وهو بذلك يسعى ليس للقطيعة وإنما لتعديل موقف واشنطن الناقد للرياض منذ وصول بايدن الى السلطة.
- لنسأل ثالثا: ما هي الرسائل أذاً؟
لا شك ان الدول العربية قلقة من أميركا قبل غيرها. فالضبابية الكبيرة في الموقف الأميركي مقرونة بالانسحاب المُذل من أفغانستان، والعجز عن تقدم القوات الروسية في أوكرانيا، وفتور العلاقة الأميركية الخليجية، والوصول الى المراحل النهائية من الاتفاق النووي مع طهران، كلّها عوامل جعلت دول الخليج تبحث عن توازنات دولية في علاقاتها، فوسّعت الإطار صوب الصين وروسيا والهند وباكستان وغيرها، وهي لا شك تسعى للاستناد الى إسرائيل ولوبياتها الأميركية والغربية لصد الغضب الأميركي المحتمل.
ولا شك كذلك أن إسرائيل التي امتنعت عن شجب الغزو الروسي لاوكرانيا، تقدّم نفسها اليوم كلاعب دبلوماسي رفيع ووسيط سياسي بين أميركا وحلفائها القلقين، وبين روسيا وأوكرانيا. فهذا يُساعدها في تحسين صورتها الدولية، والتغطية على تبييض أموال الاوليغارشية الروسية، ويصنع لها صورة كوسيط، بعد صورتيها كقوة عسكرية والكترونية في العالم.
الأرجح اذا ان الرسائل هي لأميركا وليست لمواجهة إيران. فالإمارات العربية التي تتصدر الكثير من ملفات التفاوض مع إسرائيل حاليا، حافظت على علاقات جيدة مع طهران ( رغم قضية الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وفتحت أوتوسترادات في العلاقة مع دمشق.
صحيح أن دولا مثلا الامارات والسعودية تعتقد أن الانفتاح على سورية وتعزيز العلاقة مع إسرائيل ورفع مستوى العلاقات مع الصين ( حيث أنها شريكها التجاري الأول في المنطقة) ومع روسيا وغيرها، من شأنها أن تشكل عوامل ضغط لاحقة على الطرف الإيراني، الا أن الصحيح كذلك هي المشهدية الجديدة على مستوى الإقليم والعالم، والتي تتطلب إعادة قراءة الخرائط بصورة أوضح، وهذا ما يجعل أبو ظبي تلعب على كل المتناقضات من إسرائيل الى ايران، ومن أميركا الى روسيا والصين في محاولة للإفادة من كل ذلك.
يبقى أن السعودية التي لم تحضر قمة النقب لكونها لم تطبّع رسميا مع إسرائيل، كانت وستبقى حجر الرحى في الخليج، وهي لذلك توسع دائرة حركتها في أكثر من اتجاه، فهي تقيم علاقة غير علانية مع إسرائيل، وتتفاوض مع إيران، وسوف تعيد العلاقات مع سورية، وتحافظ على علاقة جيدة مع مصر، لكن الأكيد أنها بدأت جدّيا بالتفكير بالتحولات الكُبرى على مستوى العالم، واختارت طريق تنويع العلاقات وليس حصرها بالغرب الأطلسي.
فهل تُريد فعلا مواجهة إيران أم التفاوض معها؟ على الأرجح التفاوض، وفي ذلك مصلحة ايرانية أيضا، لا بل ومصلحة كبيرة.
أما بالنسبة لفلسطين، فطالما أن شعبها رافضٌ الخضوع للاحتلال، فلا شيء سيغّير من طبيعة الصراع ولو بعد 100 عام.
الكاتب : جان بيار سيباغ
باحث متخصص بشؤون الشرق الأوسط واستاذ جامعي