د.جميل مراد:
صباح يوم الجمعة العاشر من كانون الأول ديسمبر من العام الحالي 2021، استيقظت باكرا كعادتي. نظرت من شباك الغرفة ملتمساً حال العاصفة التي باركت الأرض بغزارة أمطارها بعد طول انتظار. أبعدت الستارة بيدي اليمنى، فرأيت بهجة الأرض الرطبة وقطرات الماء تتلألأ على أوراق أشجار السرو المهجّن (الليلاندي) محتفلةً بأشعة الشمس العائدة بعد غياب بضعة أيام. وأنا أنظر إلى فرحة الغيوم المغادرة وتباهي أشجاري بالحُليّ البراقّة على أطراف أغصانها، رجّت يدي اليسرى مطولاً. إنه هاتفي الذكي، استعاد هوايته بالرقص بعد اتصاله بشبكة الانترنت كما هو مبرمجٌ صباح كلّ يوم. تتالت التنبيهات من التطبيقات المختلفة، التمنيات بصباحٍ خيّر وأدعيةٍ وتذكير بأعياد ميلاد الأصدقاء، لكن أهمها كان تنبيهٌ من اليوتيوب بحلقةٍ نشرها الأستاذ سامي كليب عنوانها “أسرار الحاكم بأمر الله في مصر بقلم يوسف زيدان” من برنامجه “حوار سامي: كتاب الأسبوع”. هممت بتجهيز نفسي للذهاب للعمل واعداً ذاتي بمشاهدة الحلقة بعد انتهائي من تدقيق نتائج الفحوصات المخبرية، بحكم عملي كطبيب مختبر.
الدكتور يوسف هو اديبٌ مصريٌّ عالمي ترجم الكثير أعماله إلى معظم لغات العالم ونال جوائز عديدة وأثار جدلاً أكثر. روايته الجريئة هذه ” حاكم – جنون ابن الهيثم” هي الخامسة والسبعون مما ناقش وكتب. من رواياته التي حصدت الجوائز خلقت جدلاً حولها، “رواية عزازيل” ترجمة إلى عدة لغات وفازت بجائزة بوكر 2009 وجائزة أنوبي البريطانية كأفضل رواية مُترجمة للإنجليزية، “رواية النبطي” وهي إحدى أشهر كتب، “رواية ظل الأفعى”، وثلاثية “محال” و”جونتانامو” و”نور”. لعلّ حبي للتاريخ الذي ورثته عن أبي أطال الله عمره وجدي رحمة الله عليه، إضافة الى مقدمة الأستاذ سامي عن الرواية وكاتبها هو ما اثار فضولي واهتمامي لاقتناء وبدء قراءة “الحاكم” بهذه السرعة.
ما هي إلا دقائق قليلات من تحميلي للرواية حتى شرعت بقراءتها مسابقاً الدقائق قبل انتهاء فترة استراحتي. قد يسأل القارئ، ما الذي جذب هذا الطبيب المخبري هكذا؟ ما الذي دفعه لكتابة نصّ بعيدٍ كل البعد عن الطب والتحاليل الدموية والأمراض؟ هل هو مهووسٌ بالقراءة والكتابة؟ أم أنّه يتابع ويحب الغوص في التاريخ وخفاياه؟ نعم، إنه عشقي للتاريخ وتتبع مصادره المختلفة وحبي للأدب الروائي الهادف. كيف لا تجذبني هذه الرواية وهي تحمل في عنوانها اسميّ اثنين من الشخصيات الخطيرة في العالم العربي والإسلامي. الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي المثير للجدل الذي تسلم الحكم في الحادية عشر من عمره. فرغم حداثة سنّه والأعداء المحيطين به في الخارج والداخل، تمكن من الحكم لمدة خمسٍ وعشرين سنة. هذا يدل على حنكةٍ ودهاءٍ وتدبيرٍ استثنائيّ. وابن الهيثم العالم العربي الفذّ الذي أثار اهتمامي منذ درست تاريخ العلوم عند العرب عام 1999 في البكلوريا.
تتميز هذه الرواية بجمعها لنقائض عدة بطريقةٍ مميزة. تبدأ القصة بشاب تخرج متفوقاً في دراسته الجامعية لكنه عاطل عن العمل. ينتقل من الصعيد أو الريف المصري إلى القاهرة المدينة المزدحمة المليئة بالحياة. يقع هذا الشاب الصعيدي الأسمر “راضي” بحب زميلته في الجامعة “أمنية” البيضاء، رشيقة القوام، أنيقة الهندام (كما وصفها الكاتب). هو الصعيدي الملتزم المتمسك بالتقاليد وركائز الدين وهي المتحررة منفتحة العقل، نتناقش بالمنطق وملمة بمعرفة معظم الديانات السماوية والغير سماوية. ينتقد أباها الذي وزّع ميراث جدّها بالتساوي بين الإخوة والأخوات بقوله “بس ما قادرشي أفهم، ليه خالف شرع الله” لكنه يشرح عن حرمان الفتاة من الميراث في الصعيد بقوله “دي تقاليدنا يا أمنية”. تسافر بنا الأحداث بين الحاضر في القاهرة بجامعتها العريقة وأحيائها الشعبية تارةً والصعيد ببيوته البسيطة وإرثه العظيم تارةً أخرى، وبين الماضي في مصر زمن حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله حيث نرى القلعة بعظمتها والفسطاط والجيزة بالرمل لا زال يكسو الأهرامات وأبو الهول والنيل بمراكبه وطوفانه وشح مياهه. نرى المنصور أو الحاكم بأمر الله من ولادته إلى يوم اختفائه، نراه بغضبه وجبروته وحزمه وبطشه كما نلمس عدله وتسامحه وحكمته وزهده. وابن الهيثم هو الأخر نشاهده بوجهين، العالم الجليل الملمّ بعلومٍ كثيرة من الفيزياء والحساب والفلك والفلسفة والمجنون الذي لا يرد النداء ولا يدري ما يدور حوله. هذا الجنون اعتمده ابن الهيثم كحيلة للتهرب من المناصب العليا في الدولة التي أوكلت إليه والتفرّغ للعلوم والكتابة عنها. نعيش أيضاً مع الصداقة التي دارت بين راوي الأحداث القديمة “مطيع” أحد أجداد “راضي”، المسلم السني من أحفاد عمرو بن العاص، والخليفة المنصور الفاطميُّ الشيعيّ. أخر النقائض التي سأذكرها وليس آخرها في الرواية، علاقة الحب القوية بين “مطيع” وابنة عم أبيه “تمنّي” التي ربته منذ وفاة والديه وهو في الخامسة من عمره، فهي تكبره بسبع سنين. بدأ حبه لها كحب الابن لأمه وتطور ليراها محبوبته وانتهى بزواجه بها.
يحاول د. زيدان في هذه الرواية دحض الافتراءات التاريخية التي ألصقت بالحاكم بأمر الله بطريقةٍ روائية شيقة بعكس ما فعل د. عبد المنعم ماجد في كتابه ” الحاكم بأمر الله – الخليفة المفترى عليه” سنة 1958 وأعيد طباعته سنة 1982. دافع الدكتور عبد المنعم، وهو أستاذ في التاريخ الإسلامي بكلية الآداب ومدير مركز الدراسات البردية بجامعة عين شمس آنذاك، عن الحاكم في كتابه بطريقةٍ تاريخية علمية منهجية مستندة على مخطوطات ومؤلفات ومراجع تاريخية. الطبيعة الروائية لسرد الأحداث التي اتبعها د. زيدان لا تسمح بإسناد الأحداث التاريخية إلى المرجع التي أخذت منه. مما لا شك فيه أن الدكتور يوسف هو مرجع بحد ذاته، اذ انه حاصلٌ على ماجستير ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية ودرجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم، كما وأنشأ قسم المخطوطات في مكتبة الإسكندرية عام 1994 وعمل رئيساً له.
يشتهر الحاكم بالله في عصرنا بدمويته المفرطة وقرارته المثيرة للجدل وادعائه الألوهية في آخر أيامه. في هذه الرواية يبين الكاتب الأسباب التي دفعت الحاكم للاتخاذ هذه القرارات يسلط الضوء على حبه للعلوم والمعرفة والزهد والتصوف. يتضح لنا كيف بنى الحاكم المكتبة الحاكمية وجمع فيها المخطوطات والكتب والمؤلفات من جميع الانحاء لتقارب عظمتها ومحتواها مكتبة بغداد. تسلمّ الحاكم الحكم بسنٍ صغير مما زاد من طمع القادة في الداخل والأعداء في الخارج. يعلل د. يوسف لجوء الحاكم إلى القتل لزرع الخوف والرهبة في نفوس من تساوره نفسه على الخطأ. معظم الذين قتلهم في الداخل من القادة والوسطاء والاستاذين والكتاب والقضاة ورجال الدين والتجار هم من الفاسدين أو المحرضين ضده. لم يُروَ عنه انه استباح مال تاجرٍ أو مالك أطيان (أراضي) عن غير حق. خير دليلٍ على عدم قتله الناس اعتباطياً هو عدم قتله ابن الهيثم الذي فشل في بناء سدّ على النيل، فعاش بقيت حياته في مصر وألّف الكثير من كتبه في هذه الفترة. علل ابن الهيثم عدم بنائه للسد بأن المكان الأنسب والأقل تكلفة لبنائه هو في بلاد النوبة لأنها أكثر ارتفاعاً من الأراضي الشمالية، لكن النوبة لم تكن تابعة للدولة الفاطمية. اشتد الخلاف السني الشيعي في زمن حكمه وازدادت الكيديات والتعصب الأعمى. بالغ أهل السنة في إغاظة الشيعة بطبخ الملوخية التي كان يحبها معاوية، والمتوكلية تذكيراً بالمتوكل العباسي، والجرجير تذكيرا بالسيدة عائشة حيث كانت تحبه، وأكل السمك الدّلْنيس الذي يسمى عند العامة بالقراميط تذكيراً بالقرامطة أعداء الفاطميين. في المقابل زاد الشيعة من سب الصحابة وكتبوا السباب على حيطان المساجد وتزيّدوا بالاحتفال بيوم الغدير لإغاظة أهل السنة. فما كان من الحاكم إلا ان منع الشيعة والسنة مما كانوا يفعلونه، وهدد بالويل لكل من يخالف أوامره. وقد قتل بالفعل رجالاً شيعة وسنة خالفوا أوامره فهدأت الفتنة. يشرح الكاتب في هذه الرواية أسباب الكثير من قرارات الحاكم المثيرة للجدل الأخرى.
لم يتبنَّ الكاتب الطريقة الدموية التي اتبعها الحاكم لتثبيت سلطته ولكن بررها. يظهر ذلك عنما طلبت “تمنّي” من زوجها مطيع أن يبتعد عن الحاكم الذي قتل وغدر بمعظم المقربين منه واستعمل القسوة المفرطة في العقاب. فأجابها مطيع أن السجون امتلأت ولم تتعظ الناس. كما لم ينفِ أو يؤكد تبنّي الحاكم لمذهب الموحدين أو ادعائه الألوهية. ما أكده د. يوسف هو سماح الحاكم لمحمد بن إسماعيل الدَّرزي واحد أتباعه حمزة الزوزني (الذي انقلب عليه لاحقاً) من الدعوة إلى مذهبٍ جديد مخالف عن المذهب الشيعي الإسماعيلي. كما ترك القارئ يصدق أو ينفي أن الحاكم كان خلف حريق القاهرة المهول. بعد انتشار الأقاويل والأشعار عن تبنّي الحاكم للدعوة الموحدين واختلاف الدعاة بين بعضهم والفوضى وانشار رعاعٍ مسلحين من السودان الزنج، قام هؤلاء بإحراق القاهرة وتدمير منازلها أسواقها وقتل رجالها واغتصاب نسائها. الغريب حسبما ذكر الكاتب أن الحاكم أمر جنده بالقضاء على هؤلاء الرعاع واخماد ثورتهم، لكن بعد نجاح جنده بذلك طعن الحاكم عنق قائد جنده بحربةٍ حادة بعدما أخبره بما رآه: ” رأيت فظائع يصعب وصفها، والله لو أن باسيل ملك الروم اقتحم مصر، لما فعل بها وبأهلها من ذلك”.
في أواخر عهده، كان الحاكم يتجول بين الناس مكتسياً رداءً متواضعاً راكباً حماره. وليلاً يذهب على حماره بدون حراسة الى جبل المقتم للتصوف. فهو القائل:
أنا لا أرجو ولا أتّقـــــي إلا إلــهي ولـهُ الفضـــــلُ
جديّ نبيٌّ وإمامي أبي ودينيَ الإخلاص والعدلُ
ما أشبه الأمس باليوم! هل ستستمر الفتن والتفرقة الطائفية والمذهبية والعرقية في وطننا العربي جيلاً بعد جيل؟ ألن يعمً السلام والأمان والعمران في بلادنا إلا بوجود حاكمٍ مستبد؟ ألم يحن الوقت لصحوة هذا الشعب العريق بحضارته وثقافته، فيتعلم من التاريخ بدلا من حفظه فقط؟
ما تدل عليه كلمات هذه الرواية، أن النقيض والنقيض يمكن أن يلتقيا ويتعايشا ويتحابّا أو يتصادقا طالما احترام الآخر مزروعٌ بينهما. الله واحدٌ خالقُ جميع البشر، جاءت الأديان لتنظم حياة الناس وتهذّب النفوس وتفرّق بين الخطأ والصواب. والله خلق الإنسان مميزاً عن بقية المخلوقات بعقله وقدرته على التطوّر الفكري. فيا ليتنا نستعين بهذا الكنز الإلهيّ ونركّز على ما تتفق عليه جميع الأديان والابتعاد عما يفرقّها. ولا بد أن يقتنع الجميع أن الدّين لله والوطن للجميع. ما أجمل الذي أنهى به د. يوسف روايته:
“رحم الله جميع المسلمين والنصارى واليهود وأهل الملل والمذاهب والديانات”.
—————————————————————————————————————-
الكاتب : د. جميل مراد أخصائي في العلوم المخبرية السريرية (طبيب مجتبر).
انهيت دراستي المدرسية في الثانوية الإنجيلية زحلة سنة 1999
مدير المختبر في مستشفى أطباء بلا حدود في بلدة برالياس البقاعية.
مهتم بالتاريخ والأدب.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…