لماذا 25 كانون الأول/ديسمبر هو يوم عيد الميلاد؟
روزيت الفار-عمّان
إنّ أحد الأسباب لاعتماد يوم “25 كانون أوّل” تاريخاً ثابتاً لعيد الميلاد هو أنّه جاء ليغطّي عيداً كان يحتفل به الوثنيّون في التاريخ نفسه؛ وهو عيد “الشّمس الّتي لا تقهر”، باعتبار السيد “المسيح” أقرب شخصيّة يحمل المفهوم نفسه أي النّور. وهناك من يقول بأنّ الرّقم “25” كان نتيجة جمع الرّقم 21 -وهو يوم الاعتدال الشّتوي الّذي تبدأ فيه ساعات النّهار(النّور) تزيد عن ساعات الظّلام- مع الرّقم “4” يوم خلق الشّمس والقمر حسب سفر التّكوين في كتاب العهد القديم، فالمسيح بهذا الإطار هو المولود الجديد الّذي بمجيئه ينتصر النّور والحق على الظّلم والباطل بعد ليل الخطيئة. كما وتمَّ تثبيت هذا العيد لدحض الشّبهات والشّكوك الّتي طالت حقيقة تجسّد المسيح في القرنين الرّابع والخامس.
بعيداً عن مظاهره الاجتماعيّة الاحتفاليّة من نصب وإضاءة الشّجرة وتزيّنها واجتماع العائلة من حولها وتبادل هدايا سانتاكلوز وما ينثره ذلك من أجواء يصدح فيها الفرح وينبعث الدّفء وتعمُّ البهجة بين النّاس، فإنّ للميلاد معانٍ روحيّة وجوهريّة أسمى من ذلك بكثير.
في العقيدة المسيحيّة “الميلاد” يعني التّجسّد، أي ظهور الرّوح الإلهيّة أو كلمة الله بطبيعة بشريّة. وهذا حدث عجائبي لأن يكون هناك حمل بتولي وولادة لطفل دون تدخّل لرجل؛ ما جعل منه حدثاً يرتقي لمرتبة الأسرار. فالميلاد ليس مجرّد استذكار تاريخي بل سر تجسّد عظيم وهو كالفصح يهدف للخلاص بل هو بدء للخلاص وشرط أساسي ليتم الموت والقيامة. فالميلاد والقيامة حادثتان بالتّاريخ المسيحي ظهر فيهما التّدخّل الإلهي المباشر في الواقع المادّي وتعتبران حجرا محكٍّ للإيمان بالعقيدة المسيحيّة.
في الميلاد يظهر الخالق تكريمه وتعظيمه للبشر، فالرّوح العالية غير المرئيّة أو المحسوسة أصبحت بشراً مرئيّاً ومحسوساً يسكن بيننا. لقد ساوى الله بهذا السّر بين البشر؛ فهم بعينه أخوة متساوون لا فرق عنده بين ضعيف وقوي أو غني وفقير أو كبير وصغير، ففي هذا رسالة أو وثيقة تآخي ومساواة على البشر أن يبنوا عليها سلامهم ومحبّتهم لبعضهم البعض.
“فولدت ابنها البكر”. باليونانيّة “البكر” (بروتوتوكون) فيها إشارة لصفة لاهوتيّة أي الانتماء لله، لذلك تمّ تقديم الطّفل للهيكل. وكمولود بكر، دشّن قدومُه بشريّةً جديدة.
لم يأت اصطفاء مريم العذراء أمّا للمسيح من فراغ، فهي المكرّسة الّتي نذرت نفسها بالكامل لطاعة مطلقة لله، فحين بشّرها الملاك بأنّها ستحمل وتلد ابناً؛ قالت: “ها أنا أمة (خادمة) للرّب؛ فليكن لي بحسب قوله”. أختارها الله لتكون مسكناً طاهراً ومنزّهاً عن كل عيب لطفل من روحه.
بعد كلّ الاضطرابات النّاتجة عن الحروب في عهد يوليوس قيصر الروماني؛ عمّت البلاد موجة أمل ورجاء بعهد سلام؛ فكانت العذراء بقداستها جزءً من هذا التّرقّب والأمل.
لماذا بيت لحم؟
لأسباب تتعلّق بالإحصاءات وجمع الضّرائب الّتي كانت تجرى آنذاك، أخذ يوسف البتول مريم الّتي كانت حاملاً بطفلها وصعدا إلى بيت لحم لكونه من بيت داؤود وعشيرته المنتمية لتلك المدينة. وهناك تحقّق وعد النّبي ميخا بولادة الطّفل المخلّص.
بالرّغم من أنّ العذراء ويوسف كانا فلسطينيّين؛ لكنّهما لم يجدا لهما مكاناً في النُّزُل، فلجآ إلى مغارة صغيرة ولدت فيها العذراء طفلها ولفّته بقماط وأضجعته داخل المذود. ثلاث تعابير: مغارة، قماط، ومذود؛ تشير بمجملها للفقر والتّواضع والتّعفّف عن كلّ ما هو مادّي. وللقماط هنا رمزيّة تشير للكفن الّذي سيلف به جسد المسيح عند موته؛ أمّا المذود فهو المذبح.
كان للقدّيس أُغسطينوس تفسير آخر جميل وعميق لكنّه مختلف، فالمذود (الوعاء الّذي يوضع به علف الدّواب) يشير إلى انّ المسيح هو خبز الحياة وقوت العالم.
أمّا الرّعاة؛ فكانوا أوّل من عرف وأتى ليشاهد الطّفل وهم الفئة الفقيرة البسيطة الّتي كانت ساهرة في”بيت السّهر” أي “بيت ساحور” المدينة القريبة جدّاً من بيت لحم. فكانوا خير من قام بنقل بشارة ولادته؛ إذ غالباً ما تكون المصادر المحلّيّة وأبناء المكان أصدق وأدق من المعلومات المكتوبة.
ثمّ “المجوس” الثّلاثة الّذين أتوا من بلاد فارس مهنّئين يقودهم النّجم لمكان الطّفل، وهم فئة الحكماء والأغنياء، حاملين هدايا من ذهبٍ ولُبانٍ ومرّ. فالذّهب “يقدّم عادة للملوك في إشارة على أنّ المسيح سيصبح ملكاً، واللّبان أو البخّور إشارة لكهنوته ورعايته، أّمّا المرّ فللدّلالة عن آلام الصّلب والموت المنتظرة.
نرى أنّ المسيح بميلاده المتواضع جمع كافّة فئات النّاس، فهو إذاً حدث عموميّ وشموليّ. أثبتت حادثة الميلاد أنّ مجد الأرض فانٍ ولا قيمة له مقارنة بمجد السّماء الأزليّ وأنّ مملكة المسيح ليست في هذا العالم بل بالسّماء.
الميلاد إذاً هو رسالة فرح وسلام ومحبّة ورحمة؛ تتضاعف قِيَمُها عند مشاركتها مع المحتاج والخروج من قوقعة الأنانيّة، ودونها لا معنى للعيد.
كلّ عام وعالمنا كلّه بخير. كلّ عام والأرض الّتي وُلد فيها السّلام ولا تزال ظمأة للسّلام بخير. كل عام وجميعكم بخير.
أحد المراجع:
العهد الجديد (ترجمة بين السطور:يوناني-عربي)
إعداد بولس فغالي وأنطون عوكر ونعمة الله خوري
الجامعة الانطوانية – بيروت 2003
المطبعة البوليسية – جونية 2015