افتتاحية

هل يُضِعف الغربُ إسرائيل ويقويّ الحركات الإسلامية؟

هل يُضعف الغرب إسرائيل ويقويّ الحركات الإسلامية؟

سامي كليب:

يستغربُ المرءُ فعلاً كيف أنّ الغربَ الأطلسيَّ ما زال بعد 75 عامًا على تقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، يتصرّف مع كلّ ما تقوم به من انتهاكاتٍ لحقوقِ الانسان التي سنّها الغربُ نفسُه، بعُقدةِ النقصِ والندم التي نجحت اللوبيات اليهودية بإشعاره بها منذ اتهامه بالمحارق اليهودية في الحرب العالميّة.  

             ويستغرب المرء أكثر كيف أنَّ كلَّ ما كان الغربُ يرفضُه عنده ويُعاقب عليه بالقانون، من فصلٍ عُنصريّ واستخدامِ الدين لنبذ الآخر وقتلِه، وقيامِ عصاباتٍ مُسلّحة بقتلِ الآخر على أساس عرقي خارج الأطر الرسميّة للدولة (كالمستوطنين مثلاً)، يقبلُه عندما يتعلّق الأمرُ بإسرائيل.

            لو أنَّ هذا الدعم الغربيّ العسكري والمالي والسياسي لإسرائيل، نجحَ في حمايتِها فعلاً، وفي تطويرِ مجتمعهِا نحو الدولةِ المدنيّة، لكان الأمرُ مفهومًا، على أساس أنّ هذا الكيان الذي يصفُه بعضُ المفكّرين العرب ب ” القاعدة الأطلسية المتقدّمة في الشرق الأوسط”، قد نجح في التماثُل مع القيَم التي يرفعَها الغربُ (ويخرقُها مرارًا طبعًا حين يتعلّق الأمر بالعالم الثالث).

           لذلك فإنّ السؤالَ الواجبَ طرحُه اليوم على أصدقائنا من المفكّرين والمثقّفين والإعلاميين في الغرب هو التالي: إذا كان شعبٌ يُعاني منذ 75 عامًا من نظامِ الفصل العُنصُريّ ( وفق توصيف منظمة هيومن رايتس ووتش ومسؤولون دوليّون وحتّى بعض أعضاء الكنيست)، ويتعرَّض لأسوأ الممارسات القمعيّة، ويُحرم من الحريّة والعمل والسفر، لا بل وحتّى من الماء الصالحة للشُرب، ويُقتل لو اعترض، ويُعتقل لو تظاهر، ويُهان لو تفاوض، فماذا يفعل؟

في تقريرِها الدقيق والاستثنائي، فصّلت منظمة هيومن رايتس ووتش قبل عامين، كلّ ممارسات الاضطهاد والتمييز العنصري، وطالبت السُلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال لأنها:” تُساهم في تسهيل ارتكاب جريمَتَي الفصل العنصري والاضطهاد المُرتكبتين ضدّ الانسانيّة” ، وقالت حرفيًّا عن إسرائيل:   :” إنّ النتيجة المتعلقة بحصول جرائم ضدّ الإنسانية يجب أن تدفع المجتمع الدولي إلى إعادة تقييم نهجه تجاه إسرائيل وفلسطين. فالولايات المتحدة، التي تقاعست لعقود طويلة عن الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتكفّ عن قمعها المنهجي للفلسطينيين أشارت في بعض الحالات في السنوات الأخيرة إلى دعمها لانتهاكات خطيرة، مثل بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة. وذلك فيما أقامت العديد من الدول الأوروبية والدول الأخرى علاقات وثيقة مع إسرائيل وفي نفس الوقت دعمت “عملية السلام”.

ليس العرب من صاغ اتفاقية ” نظام روما الأساسي” والقانون الدوليّ العرفيّ، بل هم ساهموا في ذلك مع الغرب نفسهِ، وقد كانت منظمة هيومن رايتس ووتش واضحة في القول على لسان مديرِها لشؤون فلسطين وإسرائيل :” من خلال مطابقة الحقائق مع القوانين، خلصنا إلى أنّ السلطات الإسرائيلية ترتكب الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد. ووجدنا أنّ عناصر الجريمتين مجتمعةٌ في الأراضي المحتلّة كجزءٍ من سياسة واحدة للحكومة الإسرائيلية”

من المقاومة العَلمانية إلى الإسلامية.

بعدَ عقودٍ من الكفاح المدني واليساري والعلماني العربيّ ضدّ إسرائيل والذي كان يلقى أصداءً إيجابيّة كثيرة عند النُخب والرأي العالم الغربيّين، والذي كان يصلُ في بعض لحظات اليأس إلى حدّ خطف الطائرات أو وزراء النفط، وبعد مؤتمراتٍ ومفاوضاتٍ كثيرة للسلام، من كامب دافيد إلى مدريد وأوسلو وواي بلانتايشن وغيرها، وبعد عمليات التطبيع الواسعة مع العرب، وبعد قمّة بيروت العربيّة عام 2002 التي قدّم فيها كلّ العرب السلام على طبقٍ من ذهب، ماذا كانت النتيجة: لا شيءَ سياسيًّا، بل مزيد من المستوطنات، وإحكام أكبر للسجن الفلسطينيّ، وتسليح المستوطنات، وتصديق الكنيست في العام 2018  على قانونٍ يقضي بيهوديّة الدولة الاسرائيليّة.

كانت الحركةُ الوطنيّة واليساريّة والقوميّة العربيّة، تضمّ بين حناياها شعراء وكُتّابًا وفنّانين ومفكّرين عربًا وأجانب، وتقيم المؤتمرات العربيّة والدوليّة لإقناع العالم بأنّ الشعب الفلسطيني لا يُريد سوى تحرير أرضه المُغتصبة، وكانت تُقاتل لوقف زحف المستوطنين والمستوطنات وتحرير الأرض،  وحين أعلن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ومن قلب باريس في أيار/ مايو من العام 1989 في عهد الرئيس فرانسوا ميتران  أنّ شُرعة منظمة التحرير التي تدعو للقضاء على إسرائيل ” باتت لاغية” واعترف بإسرائيل، ظنّ الفلسطينيون ومعهم العرب أنّ إسرائيل وحلفاءَها الغربيون سيُبادلونه ذلك بالشروع بإقامة الدولة الموعودة.  

قتلُ رابين وعرفات

 لنتذكّر أنّه في رسالته التى وجّهها إلى وزير خارجية النروج التي كانت تلعب دورَ وساطة ، كان عرفات قد قال :”أودُّ أن أؤكّد لكم أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية عند توقيع إعلان المبادئ تُشجّع وتدعو الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة على المشاركة في الخطوات المؤدية إلى تطبيع الحياة ورفضِ العنف والإسهام في السلم والاستقرار والمشاركة بنشاطٍ في تشكيل التعمير والتنمية الاقتصادية والتعاون”.

ردّ عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في 9 أيلول/ سبتمبر 1993 بكلام إيجابيّ أيضًا قائلا:” أودّ أن أؤكد لكم أنّ حكومة إسرائيل قرّرت في ضوء التزامات منظّمة التحرير الفلسطينية الواردة في رسالتكم أن تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة بوصفها ممثّلة للشعب الفلسطينيّ وأن تبدأ المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط”

ماذا كانت النتيجة: قُتل رابين الذي اقتنع فعلاً بالسلام على يد متطرّف يهوديّ، ومات الزعيم الفلسطينيّ على الارجح مسمومًا. هل العرب قاموا بذلك؟

كانت هذه الصّفعات مؤجّجة للغضب الفلسطينيّ والعربيّ. اتُهمت السُلطة الفلسطينيّة بالخيانة، والأنظمة العربيّة بالتخاذل، فكانت النتيجة الطبيعيّة، بعد سحق الوطنيّين والعلمانيّين واليسار، أن تنهض حركاتٌ تستند إلى الدين وترفع شعارَ فلسطين. وذلك فيما كانت العنصريّة الدينيّة والأيديولوجيات التوراتيّة تتقدّم على اليسار الإسرائيلي، وتفرض قوانينَها (المرفوضة بالأصل في قوانين الغرب)، وتُسيطر على قسمٍ كبير من قرارات الحكومة وتُمارس سياسة الابتزاز مع الجيش، فارضةً مزيدًا من التوطين، حتّى لم يبقَ من فلسطين التاريخيّة أكثر من 20 بالمئة.

اليوم أصبح الإسلامُ هو الشعار الأبرز للحركات المُقاتلة الاحتلال، وقناعاتُها الدينيّة تدفعُها للقتال حتّى الاستشهاد، وهي طوّرت أساليبَها القتاليّة وتقنياتِها الالكترونيّة ورفعت مستوى تسليحِها بدعمٍ الدولة الوحيدة التي قامت فيها ثورةٌ اسلاميّة أيضًا هي إيران. يحلُم مقاتلو هذه الحركات الاسلاميّة بالاستشهاد لاعتباراتٍ دينيّة، ولهم امتداداتٌ من لُبنان وسورية إلى العراق فاليمن وإيران. وبالمقابل بدأت إسرائيل تقلق على وجودِها رغم الدعم الكبير لها من الغرب، ورغم وقوف 100 مليون شخصٍ إلى جانبها عبر العالم، ممن يستندون أيضًا إلى عقيدة دينية دخيلة ” الانجيليون الجدد” أو من يوصفون أيضًا ب ” المسيحيّين الصهاينة”.

سارعت دولٌ عربيّة إلى محاربةِ الاخوان المُسلمين الذي تمّ اسقاطُهم من الحُكم في مصر والسودان، وسجنُهم في تونس، ومحاربتُهم في سوريا وليبيا، ونبذُهم في معظم دول الخليج (باستثناء قطر)، بينما توسّعت في الوقت نفسه عملية التطبيّع مع إسرائيل، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء. والاَن نرى أنّ حركة حماس الدائرة في فلك الإخوان تقود الحرب وتستعيدُ جماهيريتَها في عددٍ كبير من الدول العربية التي قاتلتها. كما نرى ارتفاع منسوب القلق ( الحقيقي أو المصطنع) عن الغرب من ازدياد عدد الشباب ذي الأصول العربية والاسلامية المؤيدين لتحرير فلسطين حتّى ولو كان تحت شعار الإسلام. 

ماذا عن المُستقبل؟

لا شكّ في أن الديمغرافيا، ستلعب دورًا أكبر مع ارتفاع درجة احتقان الشارع العربيّ، وستجد إسرائيل نفسَها، مهما بطشت الآن بأهل غزة وغيرهم، أمام واقعٍ جديد، بعد سقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. فهي قُهرت في كل حروبِها البرّية منذ العام 1973، وحين لا يعود للطيران أهميّة، مقابل دخول سلاح المُسيّرات وتطوير الصواريخ، والخبرات القتاليّة عند الحركات الاسلاميّة، تُصبحُ كلُّ حربٍ إسرائيليّة، خطوةً متقدّمة نحو الانتحار.

بناءً على كلّ ما تقدّم يُمكن القول، بلا أيّ تردّد، إنّ الدعمَ الغربيّ الاطلسيّ لإسرائيل، شجّعها على مزيد من التطرف والعنصريّة، وغذّى فيها الإيديولوجيات التوراتية واتجاهات الفصل العنصري، وهذا الدعم الغربيّ نفسُه المقرون بتجاهل كلّ ما قدّمه العرب للسلام، هو الذي ساهم في نجاح إيران بتعزيز نفوذِها عبر دعم حركاتٍ إسلاميّة مُقاتلة.

وإذا كان من الصعب اليوم تخيّل أيّ حلّ سريع، فالخلاصة الوحيدة هي أنّ لا مناص من إقامة دولةٍ فلسطينية مُستقلّة وسيدة وحُرّة وعاصمتها القدس، لأن القتال اليوم ليس بين جيش إسرائيلي وإرهاب كما يدّعي البعض، بل هو قتالٌ وكفاحٌ ونضال عمرهم 75 عامًا، وقد يستمرّون لسبعين عامًا مُقبلة، تمامًا كما حصل في الجزائر وانتهى بطرد المُستعمر.

كان يُقال للعرب في سبعينيات القرن الماضي، خذوا ما تُعطيكم إسرائيل اليوم لأنّكم لن تحصلوا عليه في المُستقبل، أمّا اليوم فقد انقلبت الآية ويمكن القول للغرب الأطلسي:” أقنِعوا إسرائيل اليوم بأن لا مناصَ من قيام الدولة الفلسطينية، قبل أن يُصبحّ الوقتُ مُتأخّرًا وتنزلقون أنتم أيضًا إلى فخاخ الشرق الأوسط في ظل الصراع العالميّ بينكم وبين الصين وروسيا” فالعرب نشدوا السلام للتحرير وليس للذُل والقتل والهوان ونهب الأرض وتهويد الشجر والحجر في فلسطين.

الخلاصة

بدلاً من إرسال الأساطيل، أرسلوا دُعاةَ السلام الحقيقيّ، وعودوا إلى الجوهر: أيّ إلى السبب الأعمق لما يحصل اليوم، ذلك أن الفلسطينيين جيلاً بعد جيل يُثبتون أنهم جميعًا من الضفة الغربية الى القدس فغزّة لم ولن يقبلوا العيش في ظلِّ الاحتلال.  

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button