ديانا غرز الدين
قد تكون بعض الكتب او الروايات دعوة لصحوة وجدانية، او لإبحار بعمق في ذواتنا و للتساؤل عن معنى حياتنا ماضيا و حاضرا و مستقبلا. بعضها لا تستطيع قراءته الا ببطء كي تهضم افكاره الفلسفية و تناقش العديد من التساؤلات التي يبقى اغلبها من دون اجوبة .
رواية ” قطار الليل الى لشبونه” تمجد سلطة الكلمة، تغوص في عالم اللغات و الكتب و المدن و البحر و الموسيقى و القطارات باسلوب سردي بطيء و عميق لكثرة الوصف، ليس فقط وصف للامكنة و الاحداث، بل ايضا وصف لعمق المشاعر التي تنتاب شخصياتها. تجعلنا ندرك اهمية اللغة في حياتنا العادية وتأثيرها في عالمنا المحيط بنا و الذي يأخذ شكله الذي نعرفه من خلال الكلمات.
وحدها الكلمة بمقدورها ان تحطم اسوارنا الداخلية و تجعلنا نتيه في فضاءات يفتحها لنا الخيال في رحلة بحثنا عن المعرفة.
يقول الكاتب في اقتباس واضح من انجيل يوحنا: ” في البدء كان الكلمة؛ و الكلمة كان عند الرب و الكلمة كان الرب ؛ ..فيه كانت الحياة و الحياة كانت نور الناس .”
كتاب ” قطار الليل الى لشبونة ” ، هو رحلة الى الداخل و تأمل في العمر الذي يمر مسرعا لا يتوقف الا في المحطات التي تترك الاثر البالغ في نفوسنا و حياتنا.
” و نحن لا نستطيع النزول من القطار، ولا قدرة لنا على تغيير سبيلنا او وجهتنا ولا تحديد السرعة…”
تبدأ الرواية مع الرجل الخمسيني ريموندوس غريغوريوس الاستاذ المتخصص في اللغات القديمة و المتقوقع داخل مدينته ” بيرن” و بين كتبه. يقع بين يديه صدفة كتاب بعنوان” صائغ الكلمات “، يقرأ مقاطع منه الكتاب فيلامس روحه على الفور و يشعر ان كلماته قد كتبت خصيصا له فقط . يقرر فجأة، و هو في منتصف العمر، ان يترك كل شيء؛ عمله و تلاميذه في المعهد و كتبه و حياته في بيرن، ليبدأ رحلة البحث عن نفسه و عن صاحب الكتاب الذي فتن به و سحر بلغته البرتغالية.
بالفعل حزم حقيبته و ركب قطار الليل الى لشبونة لتعلم البرتغالية و ليتعرف عن قرب على حياة “اماديو دي برادو” الارستقراطي الثري و الطبيب و الشاعر و المقاوم الثائر الذي عاش متمردا و كانت له شخصية استثنائية فريدة اثرت حياة كل من اتصل به و تعرف عليه . و حيث انه عانى من اشكالية اخلاقية بين مهنته كطبيب التي تحتم عليه مساعدة الجميع دون تمييز ، و بين حسه الثوري الذي رفض ان يحافظ على حياة جزار و ديكتاتور عانى شعبه الويلات بسببه، هذه الاشكالية سببت له حزنا لازمه طول حياته القصيرة و كانت سببا لهروبه الى كتابة تأملاته و صوغ مشاعره و منظوره للحياة في كلمات باسلوب بلاغي فلسفي غاية في العمق و الجمال .
يقول بطل الرواية: “يوجد عالم آخر ارفض العيش فيه ، : العالم الذي يشيطن فيه الجسد و الفكر المستقل ، العالم الذي تدان فيه اجمل الاشياء التي يمكن ان نعيشها و كأنها ذنوب لا تغتفر ..” ويقول أيضا ” لا يوجد اي شيء شائن في الشغف او الرغبة، الرغبة في حد ذاتها لا يمكنها ان تكون سببا في سلب كرامة اي شخص “
لا يتخلى غريغوريوس عن كتاب اماديو في كل رحلته ، يقرأه في القطار و في الفندق و في المقهى و في المعهد القديم حيث درس الطبيب الشاب ، و يلتقي العديد من الناس الذين عاصروه و البعض من اصدقائه و افراد عائلته و الذين لا يبخلون عليه بتفاصيل حياته و علاقتهم به : صديقة طفولته ماريا يوحنا التي كانت مستودع اسراره و أكثر من يفهمه، وحبيبته استيفانيا اسبينوزا التي حطمت قلبه بسبب رفضها الذهاب في رحلته والتي أشعرته بالمهانة والخيبة اللتين ” دفعتاه الى الوعي بهزيمته النهائية امام سعيه الى بلوغ سلامه الروحي، و الى الشعور بأن حياته التي بدأت متوهجة ، كانت تنطفيء و تستحيل رمادا “. وأما صديقه الحميم جورج اوكلي فقد دُمرت صداقته معه بسبب عدم الاخلاص . ويوحنا ايسا زميله في المقاومة السرية ضد الحكم الدكتاتوري الذي كان سائدا انذاك في البرتغال و اعتقل و عذب و اطلق سراحه بعد الثورة التي قامت ضد النظام في العام ١٩٧٤ . حتى شقيقته ادريانا التي عاشت اسيرة الماضي توقف الزمن عندها بموت شقيقها.
كيف نقول وداعا لشخص طبع حياتنا بشكل لم يفعله اي شخص آخر؟
في بحثه عن تفاصيل حياة برادو، و مع كل مقطع من كتابه، كانت تنفتح امام بطل الرواية ابواب روحه و تتهاوى الجدران الصلبة التي اقامها حول نفسه طوال سنوات حياته و عمله ، و جعلته يتساءل ” ..ان كان قد فوّت عليه حياة ممكنة غير التي جعلته على ما هو عليه اليوم ” .
هي رواية رائعة تجعلك ترى ضوءا جديدا يغمر الاشياء كلها وتنكشف بها خبايا الذات. تناقش التسلط الابوي (او العائلي بشكل عام) الذي يترك اثرا لا يمحى من نفوس الصغار ويلازمهم مدى الحياة. كما تطرح قضايا العلاقات الانسانية والصداقة و الفرق بين الحب و الرغبة و الاخلاص.
يقول :” لكي تستطيع ان تقول وداعا لشيء ما ،ما عليك الا مقاومته بان تخلق مسافة داخلية بينك و بينه ” وإن ” الخيال هو ملاذنا الاخير والاكتئاب هو برودة الروح ” .
بيتر بيري هو كاتب و فيلسوف و روائي سويسري ولد عام ١٩٤٤ وحائز على دكتوراة في الفلسفة ولا شك ان هذا البعد الفلسفي الأكاديمي ساعدها كثيرا في الدخول الى عمق الشخصيات وسبر كل أغوارها وتناقضاتها. كتب روايته هذه التي صنعت له المجد تحت اسمه المستعار باسكال مرسييه، ثم تحولت الى فيلم سينمائي في العام 2013 .
لا شك انها إحدى الروايات التي بعد ان تطوي آخر صفحاتها، تعيد التفكير بكل ما عشته، ولعلك تطمح الى حياة تناسب ما تريد حتى بعد مرور السنوات.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…