الطبيعة تُنقذ أولادكم وتنقذكم…هذا ما يقوله العِلم.
روزيت الفار-عمّان
كان الفيلسوف فرويد يرى بأنّ “النّقص بإشباع الحاجات الأساسيّة يؤدّي إلى اضطراب نفسيّ”. من هنا تنطلق هذه الظّاهرة والّتي تمّ التّأكيد عليها وعلى آثارها في أشهر مؤلّفات الكاتب والإعلامي الأمريكي، المدافع الأوّل عن الطّفولة ريتشارد لوف Richard Louv.
ففي كتابه The Last Child in The Woods”” “الطّفل الأخير في الغابة” الّذي صدر عام 2005 وتمّ تحديثه عام 2008، شدّد لوف على أهميّة الإتصال المباشر مع الطّبيعة لتجنيب النّاس والطّفولة الإصابة بما أسماه “اضطراب نقص الطّبيعة” حيث بيّن بأنّ وسائل التّكنولوجيا الحديثة والألعاب الإلكترونيّة هي المساهم الأهمّ في فصل الجيل الجديد عن بيئته الخارجيّة والّتي تعمل على إبقائهم داخل منازلهم وفي الأماكن المغلقة حيث يتسنّى لهم وصل أجهزتهم وشحنها؛ الأمر غير المتاح لهم في الخارج، كما وأظهر كيف أن لعامل الخوف من الخارج تأثير كبير في جعل الآباء يتردّدون في ترك أبنائهم وحيدين برفقة الطّبيعة بغية تجنيبهم أخطارها المحتملة. ومن بين الأسباب الّتي ذكرها لوف في هذا السّياق كان دور “الأنظمة الكبيرة” الّتي تتحكّم بمؤسسات الثّقافة والتّربية والتّعليم والإعلام والتّسويق وهندسة القرى والمدن؛ من خلال وضعها قيوداً تحدُّ أو تمنع تواجد الأطفال بالخارج، وتجريم اللّعب بالطّبيعة وغير ذلك من قوانين تهدف بمجملها إلى دفع المجتمعات للتّوجّه نحو ما صنعه الإنسان وطوّره بعيداً عن كلّ ما له صلة بالأرض، ما جعل
الكاتب يصف واقعنا الحضاري بواقعٍ تمَّ إقصاء فكره المجتمعيّ عن كل ما هو طبيعيّ وعن جميع القِيَم الخاصّة بثقافة التّمسّك بالأرض؛ ممّا أدّى لنشوء هذه الظّاهرة وانتشارها.
بالرّغم من أنّ تعبير “اضطراب نقص الطّبيعة” ليس وصفاً طبّيّاً علميّاً؛ لكنّه يمثّل حالة واقعيّة فعليّة أصبحنا نلاحظها في كلّ مكان بالعالم، واستحدثت معها العديد من المصطلحات العلميّة مثل رهاب البيئة Ecophobia، علم النّفس البيئي Ecopsychology ، رهاب الطّبيعة Biophobia “الذّكاء الثّامن” The 8th Intelligenceوهو الشّغف بالطّبيعة، وغيرهم. ولتلك المصطلحات استعمالات متخصّصة تُستخدم بعلم النّفس والعلوم البيئيّة.
لا يحصر الكاتب تعريف الطّبيعة بالغابات والمحميّات الطّبيعيّة وما شابه؛ بل ب”الخارج“، بدءاً من الفناء الخلفي للدّار وحديقة المنزل أو أيِّ مكان خارجيّ طبيعيّ يستحضر مشاعر المرء ويُمَكّنه من اللّعب بحريّة واستقلال ويشعره بسلام داخلي فيه اتّصال بالذّات ومناجات للطّبيعة وتحرّر من أيّة أفكار.
يقول إنّ الحفر بالتّراب والتّنزّه في الأحراج أمور أساسيّة في عمليّة نمو الأطفال وتطوّرهم الجسديّ والفكريّ والعاطفيّ حيث يسمح لهم بممارسة رياضة المشي والتّسلّق وكذلك استخدام مخيّلتهم لتكوين الذّكريات؛ و يعمل على توسيع مداركهم وتحفيز أفكارهم ما يساهم في عمليّات الخلق والإبداع لديهم وتحسين مستويات أدائهم.ويربط لوف حالات مرضيّة واضطرابات نفسيّة وعاطفيّة تصيب البشر -وخصوصاً الأطفال- بسلوك الابتعاد عن الطّبيعة؛ كأمراض السّمنة، نقص الانتباه وفرط الحركة، الاكتئاب والتّعب النّفسي والحزن والغضب، تدهور مستويات الإبداع والابتكار وانخفاض الأداء الأكاديمي وداء الخمول.
وهو يوضّح بشكل علميّ كيف أنّ الدّماغ البشري ينشط بتأثير المدخلات الحسّيّة الّتي يوفّرها التّواجد في الطّبيعة وكيفيّة تفاعل حواس الإنسان مع ما يشاهده ويسمعه ويلمسه فيها. وتبعاً لذلك فإنّ نقص هذا الاتّصال من شأنه أن يؤثّر في انخفاض استخدام تلك الحواس ممّا ينتهي بإضعافها أو اضطرابها.
بالرّغم من أنّ الانفصال عن الطّبيعة أو عدم تجربة التّفاعل الحسّي مع مكوّناتها لا تُشكّل بالضّرورة أسباباً أكيدة لتلك الحالات المرضيّة؛ لكنّ ما أُثبته العلم أنّها أهمّ أسباب علاج تلك الأمراض و شفائها.
كان لكتابه هذا حول الطّفولة “المكبّلة” الأثر الكبير في إيضاح مدى تأثير وخطورة الابتعاد عن الطّبيعة على حاضر الأجيال الجديدة ومستقبلهم ممّا استدعى قيام مئات الدّراسات والأبحاث والحوارات الوطنيّة والنّقاشات الجادّة بين الخراء والباحثين والعاملين في هذا المجال، وصدور تقارير تقدّم بها أصحابها من أجل التّغيير في المجتمعات تتحدّث عن أهميّة الطّبيعة في الحياة، وقامت بعدها حركات تدعو لذلك من بينها حركة “لا تتركوا أي طفل بالدّاخل“.
بالنّهاية نقول أنّه لا يمكن للمرء أن يجد مكاناً يريحه ويسعده أجمل وأفضل من ذلك الّذي صنعه الخالق وقدّمه له بالمجّان مهما تقدّمت وعظمت صناعة البشر.