فيلم (فوضى) لسارة فتّاحي.. إنصاتٌ بروح النون

ياسمين حنّاوي 

 

فيلم (فوضى) لسارة فتّاحي.. صورٌ بصرية شعورية مع خصائص الشفاء

كاميرتها من روح وقلب ومشاعر

لطالما آمنتُ بأنّ المعنيين بصناعة الأفلام السينمائية هم من ضمن الأكثر قدرةً على إيصال رسائلنا، والحديث بألسنةِ أرواحنا، والتعامل مع آمالنا وآلامنا بكامل الجدّية الفنية، واليوم نحن أمام عمل يثبت هذه المقولة من ناحية احترامه للواقعية السورية في السنوات الأخيرة داخل الوطن وخارجه من جانب، واستخدامه للأدوات السينمائية كجسر عبور نحو العمق الأقصى من قلوب ثلاثة سيدات تمّ انتقاؤهن بعناية شديدة من جانبٍ آخر.

إنّنا نتحدث عن الفيلم الوثائقي الطويل (فوضى) للمخرجة السورية سارة فتّاحي الذي تمّ إنتاجه أواخر العام 2018، بدعم من “مؤسّسة الدوحة للأفلام” و”الصندوق العربي للفنون والثقافة ـ آفاق” و”بدايات للفنون السمعية البصرية”، والذي تشعر مع دقائقه الخمسة وتسعين بأنّ صانعته تقطن مدينة معينة ولكنّها تُنصت بأذن روحها إلى أصوات سكان مدينة أخرى، ويمكننا تلّمس ذلك عبر تأملنا للأسلوب السردي غير التقليدي الذي نقلنا كي نصبح جزءاً من مَرويّاتٍ نسائية مُعانية. الأولى اختارها القدر كي تُغادر دمشق إلى النمسا ولا زالت في مرحلة العبور عالقة في المنتصف تماماً، والثانية جُبرت من الظروف المأساوية التي عصفت بالبلاد أن تُهاجر إلى السويد حاملةً في خلاياها الهمّ والمعاناة معاً، أمّا الثالثة فلقد اختارت عزلة ما بعد الصدمة، والانفراد وحيدة في غرفة المفقود.

ولعلّ رمزية الرقم ثلاثة – التي ابتدأتها سارة فتّاحي منذ فيلمها الأول (كوما)، واستمرت عليها في الفيلم الثاني موضع التحليل – تعني البحث عن “الرؤية الثالثة” والخيار الأوسط الثالث ما بين اثنين متطرفين، والبعد الثالث العاكس بشكل غير مباشر لما عاشه السوريون لعقدٍ من الزمان بطريقةٍ تخلو من فجاجة مشاهد القتل والتفجير والذبح والتنكيل التي استُسهل توظيفها في العديد من الأفلام والتقارير الوثائقية المتناولة للحرب السورية، والأكثر جمالاً هو عدم وجود تفصيل صغير في الفيلم بدون سببٍ أو مغزى، وينطبق هذا الأمر على لحظات الصمت، وصوت الرياح والماء، وزوايا التصوير، ودرجات الألوان، ومساحة الكوادر، وردهات المتحف، وأنفاق المترو، ووحشة الغابة، وحركات اليدين، ومستويات ارتفاع الصوت وطبيعيته، وحتى الاستعانة بممثلة رديفة عوضاً عن سارة. جميعها تدفع المُشاهد للعمل كي يندمج كلياً بالصورة ويراها بأبعادٍ متعدّدة، وينتقل لا شعورياً إلى زمانٍ ومكانٍ معينين يرتبطان بطبيعة الحال بدمشق (روح الحكاية ومغزاها).

 

وهنا يمكننا القول بأنّ  فتّاحي في (فوضى) اتبّعت طريق القلب والحدس وليس العقل، مركّزةً على عقيدة بوح (رجا) البارعة في توصيف اختلاجات ذاتها للدرجة التي نشعر معها بالصقيع وتتشنج أعصابنا مع خوفها وارتباكها، وصمت (هبة) الباقية على قيد الانتظار في منزل أصبح خالياً من الروح مع استحالة عودة الابن إليه، وما بين الاثنتين سارة نفسها التي تتقاطع بأفكارها مع الأديبة النمساوية (إنجيبورغ باخمان) من ناحية بحثهما في أعمالهما عن الحقيقة والعدل والحرية، ورغبتهما الضمنية في تقديم نتاجات فنية عن السلم لا الحرب، إلّا أنّ العوالم السينمائية التي اخترقتها مخرجة فوضى منحتها ميزة إضافية تشكلت بعد إحساسنا وكأنّ كاميرتها جزءاً رئيسياً من جسدها. تُطوّعها بمرونة وأريحية من أجل رصد حركات متواترة لحياة شخصيات متصلة ومنفصلةٍ في آنٍ واحد، ليكون المونتاج لديها إخراج آخر بُذل فيه مجهوداً واضحاً يمكن لأي باحث في هذا المجال أن يتلّمسه بدقة.

وبالرغم من الأهمية التي تتمتّع بها كلاسيكيات السينما العالمية والقواعد الصارمة التي تتبّعها في سيرورة كلّ من الأفلام الروائية والوثائقية؛ إلّا أنّ الجميل بمكان اليوم أن نشهد أعمالاً حديثة يُتقن صنّاعها القانون ويتقنون كسره بمغامرة المُجرّب واحترافية الموهوب ليكون النتاج أعمق من مجرّد فيلم تسجيلي تقليدي، بل أيقونة بصرية شافية للمستوى الذي يستحق به الفيلم المشاهدة عدّة مرّات، وفي كلّ مرّة نتماهي مع من جعلت من رسوماتها وملصقاتها ملاذاً لتجاوز شبح الأمراض العصبية، ومع من أغلقت على أوجاعها الباب وخلقت من تأملاتها وسجادة صلاتها مساحةً للوقوف على أطلال الزمن الجميل، لنغسل أيامنا في المحصلة من شوائب التنكيل والتغريب والتهجير وصولاً إلى المكان الأصفى الخالي من الخراب والفوضى والوجع.

إنّها خطوات جدية ومجتهدة ودقيقة نحو البحث في خلفية المدن والتعمق في الدمار الداخلي الذي ألحقته الكوارث بنساء العمل ذوات الخلفيات المتعددة، واللواتي يمثّلن نماذج عن مئات الباحثات عن اللاخوف، واللااحتراق واللاحداد بطريقة مواجهة الحرب الداخلية، واللعب مع التناقضات ومع مفهوم (أريد ولا أريد)، و(أين هي البقعة الجغرافية الأفضل في هذا الكوكب) ، والتي ستكون أخيراً حيث يقطن أحباؤنا.

————————————————————————————————————————————–

الكاتبة: ياسمين حنّاوي

شاعرة وأديبة وإعلامية

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago