بغداد : أسئلة العروبة وإيران (2)

سامي كليب:
محمّلاً بكل أسئلة القلق اللبنانية، وصلتُ في ذاك المساء الى بغداد. ما أن ارتحتُ قليلاً في الفندق المستلقي عند الضفّة اليُسرى لنهر دجلة، حتى أنزل الليلُ وشاحَه على المدينة، فلم يصدّه سوى انعكاس ضوء ماء دجلة تحت أنوار بغداد. بدا لي النهرُ هادئاً كعاشقٍ ينتظرُ حبيبتَه بشيء من الخفر، وهو بذلك يختلف تماما عن نهر النيل الذي يحمل فوق كتفيه السفنَ والمراكبَ السياحية الضاجّة بالموسيقى والفرح وكثيرٍ من الضوضاء.
فتحتُ الباب الزجاجيَ للشُرفة، فلفحتني حرارةُ بغداد التي كانت ما زالت هناك بأكثر من 43 درجة. لكنها حرارةُ جافّة لا تثير تصبُّبَ العَرَقِ، خلافاً لما هو حالُ حرارةِ بيروت ورطوبتِها. مع ذلك بقيتُ لربع ساعة على الشرفة، أتأملُ سحرَ الليل في المدينة. لعلّني تخيّلتُ أيضا كل الشعراء الذين تغزّلوا بعروس دجلة، وبلاد الرافدين، وقلتُ في نفسي، أني لو وددتُ أن أُطلقَ اسماً جديداً عليها، لقلتُ إنها بلادُ ” ما بين الضُلعين”، لأنها تحتلُّ مكانا بارزا في القلب والروح والوجدان.
” ننتظرُك تحت”، هكذا هاتفني صديقي الغالي ورفيق رحلتي الإعلامي أمين ناصر. كنتُ قد نسيتُ نفسي على الشرفة متأمّلاً دلالَ النهر، وكدتُ أنسى لبرهة ويلاتِ وطني الذي ودّعتُ بحرَه تاركاً الى جانبه كثيرين يحلمون باجتيازه صوب الشمال الغني بحثا عن حياة تليقُ بالبشر. لعلّي ردّدتُ في نفسي بيتا من الشعر يقول:” من قلبِ لبنان جئتُكِ/ يا بغدادَ والظلمُ بيننا أنسابُ”، وهو بالأصل بيتٌ من قصيدة رائعة كتبها الشاعر العراقي الكبير مصطفى جمال الدين في قصيدةٍ بعنوان ” من الجنوب الى الجنوب”، يقول فيها:” من جنوب العراق جئتُكَ/ يا لبنان والظلمُ بيننا أنسابُ”.
ما أن نزلتُ الى بهو الفندق الفخم، ولعلّه الوحيد الفخم في بغداد لسبب أجهله رغم غنى البلاد، حتى أحاطتني عاطفةُ عددٍ من الزملاء تقاطروا للترحيب والاستقبال بكل محبة وشجن ومحبّةِ العراقي الأصيل. ذهبنا سويا الى فندق آخر للقاء مجموعة أخرى من الصحافيين، فلفتتني صالةٌ الى جانبه تنبعث منها الموسيقى وأضواء حمراءُ خافتة، وفيها شبّانٌ وفتياتُ يوحون بأن في المكان شيءٌ يُشبه بعضَ علبِ الليل في بيروت، أو يُشبه ما كان في العراق في زمن البعث.
كان نقاشُنا الأول في تلك الليلة مع رئيس جمعية الصحافيين الاماراتيين محمد الحمّادي، هو رجلٌ اربعيني ( أو خمسيني) العمر، نحيل القامة، هادئ الطباع والصوت، عميق الأسئلة والاجابات من خلف نظّارتيه وعينيه الثاقبتين، والى جانبه الزميلة العراقية والباحثة في مركز دراسات إماراتي سارة القريشي ذات القامة الفارعة والكلام القليل والمفيد والوجه الذي يُشبه بغداد فلا تعرف أهو سعيدٌ أم حزينٌ أم شيءٌ آخر. كانا هناك مشاركين في تغطية ” قمة بغداد للشراكة والحوار” التي صودف انعقادُها مع يوم وصولي الى العاصمة العراقية. أعطت تلك القمة مؤشرا عربياً ودوليا كبيرا على أن عروس الحضارات التي ناءت تحت وطأة الحروب والإرهاب، وقُتلت مرّاتٍ عديدة بسبب صراع المحاور، قرّرت أن تصبح ساحةً لتبريد الجبهات وتعزيز الحوار والمصالحات، فاجتمع فيها السعودي والإيراني والاماراتي والتركي والفرنسي والعراقي وكثيرون آخرون. فَرِحَتْ بغدادُ لهذا اللقاء وفرحنا معها لأنها لو نجحت، فهي حتما ستساهم في تبريد جبهات سورية ولبنان واليمن وغيرها.
قال زميلنا الإماراتي، إنه فوجئ بهدوء الوضع الأمني في بغداد، لكنه قال أيضا وبصراحة لافتة، إنه لن ينصح أحدا في الوقت الراهن بالمجيء والاستثمار في العراق بانتظار أن يتأكد استتبابُ الأمنِ ونَزْعُ الفتائل التي يُمكن أن تشتعل مُجدّدا. ثم تَشعَّبَ الحديثُ عن العمق العربي للعراق وعن دورِ إيرانَ فيه، فكان جوابُ عددٍ من الزملاء، بأن العرب تخلّوا طويلا عن العراق في مِحَنِه الحديثة في العقود الثلاثة الماضية، وإنه لم يجد سندا في محاربة الإرهاب والمخارج الاقتصادية الا في طهران، بينما كان رأي الزميل الإماراتي مختلفا تماما وسانده في ذلك نفرٌ قليلٌ من الحضور معتبرين أن إيران تتمدّد وأنها السبب. لا أعتقد أن أحد الطرفين نجح في إقناع الآخر، فدول الخليج تعتبر أن إيران ” تهيمن ” على العراق كما تهيمن على لبنان، وكثير من العراقيين مقتنعون بأن العرب هجروهم مرارا في أوقات محنتهم. فانتقلنا للحديث عن لبنان وسأل الزميل الإماراتي عمّا يمكن أن تفعله الامارات فعلا لمساعدة اللبنانيين، فكان الجواب الصادم دائما بأن لا حلول فعلية قبل تقدم المفاوضات الأميركية الإيرانية وتعزيز المصالحة السعودية الإيرانية، لان أي مساعدة حالية ستُعيد انتاج الطبقة السياسية نفسها التي سلّمت المفاتيح لحزب الله وإيران.
السؤال عن مساعدةِ لُبنان سمعتُه مرارا في خلال لقائي مع رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الذي استقبلني برحابة كبيرة وصراحة أكبر في بيته في المنطقة الخضراء، وبدا لي مشغولا فعلا بكيفية المساهمة بإنقاذ لبنان (وهذا ما سأعود اليه في مقال قريب خصوصا أن الرجّل يُعدّ لشيء ما وربما يكون مهما ).
إيران في الأحاديث البغدادية
عدنا الى فندقنا في ساعة متأخرة. لاحظتُ في خلال ذهابنا وإيابنا صورا كثيرة ومجسّمات لقادة إيرانيين ويافطات تحمل شعار ” يا حسين”، ربما كان هذا دليلا على الحضور الايراني والدور الشيعي الكبير، أو لعلّه ارتبط بمناسبة عاشوراء التي لها في العراق مكان الصدارة في قلوب أتباع الإمام علي وأبنائه.فهنا كانت كربلاء، وهنا ما زالت الذكرى تكبُر جيلا بعد جيل رغم كل المآسي التي عرفها العراق والدماء التي سالت فيه لاحقا.
كانت الحرارةُ قد انخفضت قليلا في أثناء عودتنا، وكانت بركة السباحة تُغري العائدين بالجلوس الى جانبها والتمتع بالنارجيلة العراقية. أنا شخصيا لا أحب التدخين لا نارجيلة ولا سيجارة، لكني أقبل بهذه الضريبة لأنه بدونها قد أفقد أحاديث وحوارات كثيرة مع من يعشقونها ولا يسترسلون بالحوار بدونها.
لعل تلك الطاولة التي كنا نعود اليها كل ليلة مع الزملاء الأحباء الذين آخيتهم وغمروني بمحبتهم واهتمامهم وكرمهم وهم من نجوم التلفزات والاعلام العراقي: ريناس، وهارون الرشيد، وهشام، وربيع، ومنتظر ونور..وغيرهم، تحفظ الكثير من نقاشاتنا حول العرب وإيران وحول حقيقة قد تختلف عن الكثير مما يقال خارج العراق، فأولوية العراقي هي بلاده، لا ايران ولا السعودية ولا أميركا ، وأما الباقي فهو يتنوع بين الحاجة الى دعم خارجي في أوقات الشدّة، والرابط الديني ( اذا كان شيعيا)، والدعم في مكافحة الإرهاب.
فما هي حقيقة تلك الروابط المثيرة لجدل كبير ومقالات وبرامج إعلامية لا تُعدّ ولا تُحصى حول العلاقات العراقية مع العرب وإيران خصوصا بعد التظاهرات التي اندلعت في العامين الماضيين ضد الوجود الإيراني في مناطق شيعية جنوبية؟ كان لا بُدّ من اللقاء ببعض المراجع الشيعية ذات الثقل الشعبي والسياسي، ولقاء مسؤولين سياسيين من قادة البلاد، لفهم حقيقة ما يجري، ويبدو أن الحقيقة مختلفة كثيرا عما يُقال.
غدا نكمل الرحلة ونزور السيد عمّار الحكيم وهو قيادي ديني وسياسي له مكانة جيدة في عراق اليوم ويثير جدلا كبيرا، وهو أيضا أبن العائلة الدينية والسياسية العريقة ( والده عبد العزيز الحكيم الذي كان يُعرف بعزيز العراق، وجده آية الله العظمى محسن الحكيم، وعمه السيد محمد باقر الحكيم). يُعتبر السيد عمّار أحد المطالبين باستقلال القرار العراقي وتعزيز الجسور العربية ولذلك يلقى انتقادات من قبل التيّار المؤيد لإيران ( رغم أنه درس وترعرع فيها) بينما يعتبره خصومه مدعوما من الخليج، وهو يروي في مقدمة كتابه “رحلة وطن” القصة التالية فيقول:” في سبتمبر عام 2010 زارني جو بايدن ( الرئيس الحالي) وكان نائب الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، قال لي بايدن : لماذا لا تدعم حكومة المالكي حتى لا يدخل العراق مرحلة مغلقة من الانسداد السياسي؟ قلت له : لقد سمعتُ الطلبَ نفسَه في إيران، واليوم أسمعُه-للمرة الثانية- من الولايات المتحدة، ثم قلت له ضاحكا : ما الذي يجمع “الشيطان الأكبر” مع “محور الشر ؟”
لعلّ في ما يرويه الحكيم، تلميحٌ ضمنيٌ لتشابك مصالح الجميع على أرض العراق؟ فلمن الغلبة هناك: للأميركي، أم للإيراني أم للخليجي، أم لأهل العراق عاجلا أو آجلا؟
(الجواب غدا إن عِشنا؟) .