آخر خبرمقال اليوم

الصين والخليج،علاقاتُ العصر أهم من تحدّي أميركا

 وائل خليل ياسين- بكين 

يتيح التقدم الكبير في علاقات الصين مع دول الخليج وخصوصا السعودية والإمارات، فرصة نادرة لمجلس التعاون الخليج لتحقيق توازن حقيقي في تحالفاته الدولية، وضمان مصالحه الاستراتيجية على المدى الطويل والخروج من دائرة أحادية الضغوط الاميركية. وهذا على ما يبدو هو الخيار المتنامي بين الصين والخليج، حيث ليس الهدف هو استبدال حليف بآخر وإنما تنويع التحالفات ورفع مستوى القدرات والطموح، وتحقيق مشاريع ضخمة. 

الواقع أن الصين تولي بالأساس اهتماما كبيراً وواسعاً منذ القدم للعلاقات التاريخية مع الأمتين العربية والاسلامية، والمملكة العربية السعودية تعتبر ركنا مفصليا في هاتين الأمتين، والشاهد على تلك الحقبات “طريق الحرير”، الذي لم يأت من فراغٍ أو مصلحة من طرفٍ واحد، انما شقٌته إنجازات وتراكمات وثقافات وحضارات عريقة تحاكي الواقع، وتواكب التطورات.

ثم إن التطور السريع لدول الخليج يفرض على  شعوبها تحديات كبيرة حيال خارطة المستقبل، فيصبح الانفتاح على الشرق منطقيا وطبيعيا في سياق هذا التطور، ويصبح  طبيعيا أيضيا الخروج من “شرنقة الغرب” المستمر في جانبه الأميركي خصوصا  على محاولة أسر الجميع ليبقوا كأحجار الدومينو يدورون  في فلكه كما يريد لا كما تريد دول الخليج.  ولذلك نلاحظ أنه كلما تعزّزت مثلا العلاقات بين السعودية وبكين كلما أبدى الجانب الأمريكي انزعاجه فيحرك ضغوطه عبر تحريك الاتهامات تحت راية حقوق الانسان والديمقراطية وغيرها.

الصيني لم يخبىء تقاربه من السعودية ودول الخليج، تعزيزاً لرؤية “السعودية 2030″، بالإضافة لمبادرتي “السعودية الخضراء” و  ”الشرق الأوسط الأخضر”، لتكون مدخلاً من مداخل التعاون بين الجانبين  في مجالات الطاقة والاستثمار والتمويل، والمساعدة في تحقيق التنمية المتنوعة للإقتصاد السعودي، وصولاً الى انجاز عقد القمة الصينية العربية التي تتمحور حول مصير العلاقات وكيفية مقاربة القضايا المصيرية في المنطقة، ومن منطلق محدد وواضح، في الحفاظ على علاقاتها المتوازنة بدقة في جميع أنحاء المنطقة.

في غضون ذلك سيتعين على دول الخليج أن تتعامل مع التنافس المستجد بين القوى العظمى و المتمثل بالولايات المتحدة والصين من منطلق التوازن الدقيق ومقاومة الانحياز إلى أي من الضفتين. فالاستراتيجية الشاملة بين الصين والمملكة العربية السعودية، لم تكن لتنسج لمرحلة مؤقتة وآنية إنما أبرمت لتكونا شراكة استراتيجية قائمة على أساس دولتين صديقتين معززتين بالثقة الى أبعد حدود.

إن أهمية هذه الشراكة أنها تفتح أبواب الطرق البحرية والبرية “الحزام والطريق” والذي يعتبر من أهم وأضخم المشاريع التنموية في العالم وخاصة لما يسمى شعوب العالم الثالث، كونه يؤسس لنهضة تجارية وصناعية ويربط دول اسيا بشرقيها الأدنى والأوسط بأوروبا وأفريقيا، وهذا يرسّخ الفكرة الاستراتيجية الصينية القائلة بأن الحروب لا تأتي بالتطور والصعود الى القمة، بل أنها تأخذ الشعوب الى الانحدار والتخلف، وهذا ما تعيشه بعض الدول العربية من الحروب والتي أدت بها الى استنزاف مقدراتها البشرية والمؤسساتية.

لعل أبرز مثال على ذلك هي  مشهدية أفغانستان وتطور أحداثها الدراماتيكية  والتي تثبت انه لم تنجح أي محاولة للتدخل من قبل قوى خارجية، وأنه لا يمكن تحقيق أية محاولة لفرض نموذج نظام خاص بجهة ما على الدول الأخرى. كما ثبت حتمية ووجوب سلوك خيار التشارك بهدف التنمية و نبذ خيار الحروب و الدمار .

بالمقابل فإن الصين تدين بحزم جميع أشكال الإرهاب، ولم يسجل انها دعمت او تدعم أية مجموعة ارهابية، ولأنها تعارض ازدواجية المعايير فهي تساند الدول العربية والإقليمية في مكافحة الإرهاب وتدفع بإتجاه دعم القدرات الأمنية والعسكرية في هذا الشق.

علاقات مع إيران لا مع تنظيمات !!

يحاول  بعض المحللين أن يستعملوا التعاون الصيني الايراني للاستغلال الشعبوي، ويضعونه موضع اتهام للصين بدعم الإرهاب على قاعدة أن ايران تدعم منظمات حزب الله في لبنان وسوريا وفيلق القدس والحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن، ويحاول الإعلام المناهض للصين والبعض الآخر المدعوم ايرانيا تسويق أن التعاون الصيني الإيراني ينسحب ايضاً على دعم تدخلاتها في دول الجوار وذلك بهدف دق إسفين في العلاقات الصينية العربية ولكن يغيب عن الأذهان أن الصين ورغم تمسكها بالحفاظ على حقوق الشعوب والدفاع عنها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فانها لا تفتح علاقات مع تنظيمات مسلحة وإنما تعتمد على العلاقات مع الدول والمؤسسات الشرعية وفق ما تنص عليه قواعد العلاقات الدولية محافظةً على مبدأ سيادة الدول واستقلالها وقرارها الحر، وبالتالي فإن علاقتها مع ايران مشروعةً وتنطلق من هذه المبادىء كعلاقة اي دولتين صديقتين يوجد بينهما مصالح مشتركة مميزة، كما انها تؤكد أيضاً على علاقاتها المميزة والاستراتيجية مع الدول العربية بل وتسعى بشكلٍ كبير لتعزيزها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر والامارات العربية المتحدة والعراق.

انطلاقاً من الثابتة الصينية التي تقول  أن مكافحة الإرهاب تحتاج إلى تدابير شاملة لمعالجة الأعراض والأسباب الجذرية على حد سواء، وأن عمليات مكافحة الإرهاب ينبغي أن تمتثل لمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والمعايير الدولية، وأن تحترم سيادة جميع البلدان واستقلالها وسلامتها الإقليمية.فإن الصين تؤكد استعدادها لتعزيز التبادلات والتعاون فى مجال مكافحة الارهاب مع الدول العربية لإقامة آلية تعاون أمنى طويلة الأجل، وتعزيز الحوار حول السياسات وتبادل المعلومات المخابراتية، والقيام بالتعاون الفني وتدريب الأفراد من أجل مواجهة التهديدات بشكل مشترك.

لا أحلاف عسكرية

يسجل للصين أنها رفضت عبر التاريخ مسألة إنشاء الأحلاف العسكرية والإنخراط فيها، وهي تُفضّل التركيز على بناء شبكة واسعة من الشراكات الإستراتيجية متخذةً من قاعدة “الشراكة وعدم الانحياز” اساساً لها معتمدة على قوتّها الإقتصادية المتنامية حيث وقّعّت الصين رسمياً عام 2019 شراكات إستراتيجية مع 110 دولة ومنظمة إقليمية و هذه المقاربة تساعد الصين على خلق بيئة تعاونية متعدّدة الأقطاب مواتية لها ومعادية لنزعة الهيمنة الأمريكية.

وتثبيتاً لمبدئها الرافض لمفهوم الانخراط بالأحلاف و الانحياز قال الرئيس الصيني شي جين بينغ عندما تحدث في مقر جامعة الدول العربية عام 2016 قائلاً “إن الصين لا تقوم بتنصيب الوكلاء في الشرق الأوسط، ولا تنتزع ما يسمى بـ”مجال النفوذ” من أي احد ولا تنوي “ملء الفراغ “، لم يكن يومها كلاماً عبثياً أو أتياً من فراغ، إنما قاله للغمز من قناة أن لا يمثل الصين سوى الصين نفسها، كرد على ما تحاول امريكا تعميمه.

علاقات متطورة ومتوازنة  مع العرب وجيرانهم

سعت الصين ومنذ تأسيسها لصياغة علاقاتها وشركاتها بتوازن فكانت أولى العلاقات المميزة والتي وصلت الى مستوى الشراكة الاستراتيجية في المنطقة مع الجزائر وكذلك مع مصر التي تتشارك معها بأضخم المشاريع ، وصولا الى الإمارات العربية المتحدة التي أضحت شريكا استراتيجيا أولا في الشرق الأوسط، أما بخصوص المملكة العربية السعودية فقد خصها وزير خارجية الصين وانغ يي بأن تكون محطته الأولى في جولته الشرق أوسطية الأولى لعام 2020 لكي يطلق منها مبادرة الصين بشأن الأمن والاستقرار بالشرق الاوسط، مثبتا بذلك الدور المحوري والأساسي للسعودية على الصعدين العربي والإسلامي.

اضافة الى تلك العلاقات نسجت الصين علاقة تشاركية مميزة في سياق مشروع الحزام والطريق مع تركيا، وكذلك وقعت الاتفاقية الصينية العراقية والتي تعتبر من كبرى الاتفاقيات التي وقعتها الصين، والاتفاقية الصينية الايرانية التي تأتي في هذا السياق، مثيلها مثيل باقي دول المنطقة.

 ان شراكات الصين مع دول المنطقة تأتي ضمن قواعد واسس اخلاقية وندية من دولة الى دولة بغض النظر عن الأنظمة التي تتبعها او الجهات السياسية التي تتولى زمام الحكم، لأن الصين تعتمد في علاقاتها مع الدول على مبادئها الوطنية والقومية والتي خطها الأحمر هو دعم استقلال الدول وسيادتها.

الصين والخليج علاقات تطورت بسرعة

تطورت كثيرا في السنوات الماضية العلاقات الصينية الخليجية بشكل عام  ومع السعودية على وجه الخصوص، وقد تجلى ذلك عندما وقعت خمس دول من مجلس التعاون الخليجي (الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وعُمان والكويت) اتفاقيات لتصبح أعضاء مؤسسين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، وهو بنك تنمية متعدد الأطراف ومقره في بكين يبلغ من العمر خمس سنوات ويركز على تمويل مشاريع البنية التحتية في الاقتصادات الناشئة. في عامي 2016 و 2018 على التوالي ، رفعت الصين علاقاتها الثنائية مع أكبر اقتصادين في دول مجلس التعاون الخليجي ، المملكة العربيةالسعودية والإمارات العربية المتحدة إلى مرتبة الشراكات الاستراتيجية الشاملة.

عانت منطقة الخليج  كثيراً من العوامل الجيوسياسية المتقلبة على مدى الثلاثين عامًا الماضية وتأثرت اقتصاداتها سلبًا نتيجة لذلك. لذلك فإن ثمة فرصة كبيرة متاحة أمامها الآن، ليس لاستبدال حليف بآخر، وانما لاحداث توازن كبير وعميق ومهم في مجال السياسة الخارجية والتعاون والتبادل، بحيث  تعمل هذه الدول على ضمان أن لا يتصاعد التنافس الاقتصادي والجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة إلى صراع عسكري. ويعتبر بناء قدرات دول الخليج وتعزيز القدرات الدبلوماسية من أجل التنسيق الرفيع المستوى للتنمية والاستثمار والسياسة التجارية أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق هذا الهدف.

لعل المنطقة وبعد الضغوط الهائلة التي مارستها ادارة دونالد ترامب لفرض ” صفقة العصر” التي أرادتها مجحفة لفلسطين والدول العربية، تشهد الان ما يُمكن وصفه ب ” علاقات العصر” بين الصين والدول العربية وفي مقدمها الخليج ومصر، ولا شك أننا أمام مرحلة جديدة وواعدة جدا.

 

 ———————————————————————————————————-

الكاتب : وائل خليل ياسين

– رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والتنمية.

– استشاري متخصص بحوث سياسات مجلس الدولة الصيني لشؤون غرب آسيا وشمال أفريقيا.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button