Categories: افتتاحية

ليست المذاهب مُهانة في لبنان، بل الوطن

سامي كليب:

كان للأديب والفيلسوف الفرنسي ذي الأثر الكبير في القرن الثامن عشر ” فولتير” مقولة مختصرة لكن ذات رسائل كثيرة حول الدين يقول فيها:” حين يتعلّق الأمرُ بالمال، فكل الناس يصبحون على دينٍ واحد”. لعل استحضار هذا القول في لُبنان مفيدٌ تماما اليوم، ذلك أن هذا الوطن الجميل والجريح، لا يعرف ” النخوة” الدينية عند هذا الطرف أو ذاك، الاّ حين تتضرر مصالح زعمائه، وغالبا ما تكون المنفعة والضرر بعيدين كل البعد عن جوهر الدين ومتعلّقين بشؤون سياسية أو اقتصادية آنية خصوصا ان كثيرا من الزعماء ليست لهم أي علاقة عميقة أو وطيدة بأصول الدين وفرائضه.

          مَن يستعرض أدبيات قادة المذاهب في لبنان، يجد فيها جميعا، انكفاءً الى التعصب الديني في أوقات الأزمات والحروب، ولكن أيضا في أوقات الصفقات وتقاسم المغانم. فكلّهم دون استثناء، تحدثوا عن ” مظالم” بيئتهم وطالبوا بالمزيد، وكلهم رفعوا شعارات دينية في أوقات الحروب ضاربين بعرض الحائط انتماءاتهم الأخرى، وهذا منذ ما قبل الاستقلال، ذلك أن الخارج (آنذاك السلطنة العثمانية من جهة والغرب بكل تنويعاته البريطانية والفرنسية والأميركية وغيرها من جهة ثانية)، تلاعبوا بالمذاهب، وحوّلوا معظم قادتها الى بيادق يقاتلون بعضهم بعضا، تماما كما استمر الأمر بعد الاستقلال، حيث بقيت البيادق على حالها، وتغيّر اللاعبون ( فحتى إسرائيل صار لها الدور الأكبر في هذا الشرخ المذهبي منذ خمسينيات القرن الماضي).

          كان وما يزال من مصلحة زعماء المذاهب في لبنان، سياسيين وروحيين، الإيحاء بخلل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يتعرض له مذهبهم أو بخطر قضائي، وكان وما يزال من مصلحتهم، تعميم فكرة الطائفية على جماهيرهم، وليس الغاءها، رغم أن ” اتفاق الطائف” الذي سعى لتنويعات مذهبية أيضا، قال بإلغاء الطائفية. ولو دقّقنا بعدد المجرمين الذين حمتهم مذاهبهم من يد القضاء  عبر تاريخ الوطن لأدركنا حجم الكارثة.

  الواقع أن كل الدراسات العلمية كذّبت هؤلاء القادة والزعماء، وأكدت أن الطائفية هي من صنيعهم وليست من نتاج الاتجاهات الشعبية او الفكرية أو الثقافية في الوطن، فهؤلاء القادة والزعماء يحرصون دائما على نقل الطائفية الى الشعب الذي ما زال أقل طائفية بكثير من زعمائه.

هذا الباحث الألماني تيودور هانف مثلا والذي درس المجتمع اللبناني 16 عاما، وضع كتاباً قيّما وغنيّا بالدراسات والأرقام والإحصاءات، بعنوان :” لبنان، تعايش في زمن الحرب، من إنهيار دولة الى انبعاث أمة”، كذّب فيه كل روايات الزعماء والقادة الطائفيين.

يقول الكاتب ( ص 626) :” إن نسبة الموافقة على المبدأ العلماني للدولة اللبنانية ارتفعت من 84% في السنوات 1981 و 1984 الى 87% عام 1986، والى 93% عام 1987 ” ويضيف :” لدى كل الطوائف أيدت الأكثرية مفهوم ” علمنة الدولة والمجتمع” أكثر من مفهوم ” الطائفة العلمانية” ..ذلك أن عددا كبيرا من المسيحيين اللبنانيين يتخوّفون من أن مواطنيهم المسلمين يريدون فقط علمنة الدولة، وليس القوانين ولا المجتمع… ولذلك  برزت مفاهيم اللامركزية الاقتصادية والسياسية، التي يمكن أن توفر استقلالية ذاتية فعلية للطوائف”

الكاتب الذي يؤكد أن انقلابا قد حصل فعلا على “الطائف” لمصالح القادة والزعماء، يرى الناس من منظور آخر فيقول:” تعلّم اللبنانيون من تاريخهم الحديث، بأنهم أمّة، ويريدون البقاء كأمّة، إن حبّهم للديمقراطية وعشقَهم للحرية، لهما جذور عميقة، فمن غير المحتمل أن تتخلى مثل هذه الأمّة عن طموحها لتقرير مصيرها الفعلي، وعن سيادتها الكاملة”.

كثيرون في الواقع كتبوا عن الفرق بين ” الطائفي والطبقي ” في لبنان، وشرحوا عن تمركز الاحتكارات الكُبرى (والتي نرى نتائجها الكوارثية اليوم) بيد مجموعة صغيرة من قادة المذاهب، وجماعتهم المالية ،وحلفائهم المصرفيين والاقتصاديين. وغالبا ما كان تقاسم الاحتكارات يتم بين زعماء الطوائف حتى في أوج تحاربهم بلحم شعوبهم. ولذلك تم منع وصول أي قادة أو أي أحزاب غير طائفيين الى السلطة على نحو واسع.

من الأرقام التي ذكرها مثلا الكاتب والأستاذ الجامعي فواز طرابلسي نقلا عن مراكز مالية دولية:” أن 48% على الأقل من ثروة لبنان الخاصة تتركز في أيدي 8900 نسمة، أي ما لا يزيد عن 0.3% من السكان البالغين، وهي الفئة التي يزيد دخل أفرادها عن مليون دولار للفرد. وهذا يعني أن سائر البلد، أي 99.7% من السكان، يملكون أقل من 52% من الثروة “.  ( طرابلسي وضع مجموعة من الكتب القيّمة حول الطبقة والطائفية والاحتكارات وتوزيع الثروة في لبنان) .

الواقع أن الطائفية لم تخدم الا مصالح قادتها في لبنان، وأن ما كان يمنُّ به الزعيم المذهبي أو الطائفي على ناسه، إنما يأتي بحثاً عن استمرار تأييده وليس لرفع مستوى ناسه، ومن خالف هذا التوجه من القادة الذين تعاقبوا في لبنان، اغتيل أو اختفى أو هُمّش، من خلال تقاطع مصالح محلية وإقليمية ودولية. وقد نجح قادة المذاهب في توظيف ( كي لا نقول استعباد) نخبٍ كثيرة من الكتّاب والمفكرين والمنظّرين والإعلاميين للترويج لأفكارهم المناهضة لمفهوم الوطن.

اذا كان الفيلسوف الكبير  نيتشه  يقول ” إن العلمَ بلا ديانة أعرج، لكن الديانة بلا علم عمياء”، فإن الطائفية في لبنان بقيت في حدودها الضيقة، وبسبب غياب الدولة المريب، راحت كل طائفة، تسعى من خلال زعمائها الى تحسين مستواها لتنافس الطوائف الأخرى وليس لتبني معها وطناً، ويكفي أن نلقي نظرة على التوزيع ” التعليمي والتربوي” في لبنان لنفهم أكثر عمق هذا الشرخ.

كلّما تعرّضت مصالح قادة المذاهب السياسيين والروحيين للخطر، تقاتلوا أو تآلفوا، لكن منذ استقلال لبنان حتى اليوم، لم يمنعهم اقتتالهم واحترابهم من التوحّد حول المحاصصة وتقاسم الجبنة، وضرب كل مؤسسات الدولة وتفريغها من مضمونها. فلا سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية أو أمنية أو حتى اعلامية الا بيد قادة الطوائف.

يقولون ان الغاء الطائفية مرة واحدة، سيُحدث زلزالا، يقولون ذلك منذ عشرات السنين. لكن لنطرح سؤالا حول دولة كان المساس بأسس فكرها الديني أخطر بكثير من لبنان هي المملكة العربية السعودية. لم يكلّف الأمر هناك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الا بعض القرارات الجريئة التي لاقت تأييدا شبابيا عنده وبعثت برسائل إيجابية للغرب، فقرّر إعادة النظر بكل الأسس الدينية الوهابية، وكفّ يد المطاوعين، وأوقف هيمنة رجال الدين والمنظّرين والمفكرين المتشددين الذين ما كان أحد قبله يجروء على المساس بهم،  وقال أنه لو كان الشيخ محمد عبد الوهاب نفسه على قيد الحياة لما قبل بما يجري، وغيّر المناهج التربوية، وحوّل الداخل السعودي من الانغلاق والتشدد الى مكان جذب لأكبر وأشهر الفرق الفنية والمسرحية والغنائية في العالم، وعزز حرية النساء والشباب.. اذا كانت السعودية نجحت في استحداث تعديل عميق في المرتكزات الوهّابية، فهل لبنان أصعب؟ وهل فعلا شباب لبنان يريدون استمرار الطائفية والمذهبية أم أنهم كما شباب السعودية ضاقوا ذرعا بكل مخلفات التاريخ البالية.

في المحصّلة، لا يوجد مذهب في لُبنان مُهان، وإنما تتقلّب وتتغير مصالح المذاهب والطوائف، قياسيا الى أسباب غير دينية، أما المُهان الأكبر فهو الوطن، ذلك أن الدولة التي تقدّم مذاهبها على مؤسساتها، تقتل المؤسسات وتبقى المذاهب، ويموت الوطن. وأما الحل فهو طبعا بيد الناخب اللبناني، هو يقرّر هل يبقى عبدا لقادة المذاهب، أم يصبح مواطنا له كامل الحقوق والواجبات.

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

3 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago