آخر خبرافتتاحية

هذه أسباب انهيار لبنان وهذا المتوقّع. بلا أوهام  

سامي كليب:

                    يوماً بعد آخر، يتبيّن أن لانهيارِ لبنان المُبرمج أسبابا استراتيجية كُبرى تتعلق بصراع المحاور وأسبابا مجهرية داخلية. وإذا كان معظم الجماعة السياسية التي حكمته على مدى العقود الماضية بالتعاون مع شبكات تجارية ومالية، قد ساهم، عن قصد أو غباء أو تآمر أو جشع أو فساد، في هذا الدمار المُبرمج، فإن أبرز هؤلاء كانوا وما يزالون مجرّد بيادق على رقعة شطرنج أكبر مهما تخيّلوا لأنفسهم أدوارا أكبر، وأما الدور الوحيد الذي ينقسم حوله الداخل والإقليم والعالم، فهو دور ومستقبل حزب الله.

عَرفَ لُبنان عبر تاريخه الحديث عددا من الحركات المُسلّحة الكبرى، أبرزها قوات الحركة الوطنية، والتنظيمات الفلسطينية، وحركة أمل، وقوات الجبهة اليمينية وفي مقدمها حزب الكتائب والقوات اللبنانية (بكل تفرّعاتها وانقساماتها السابقة) ونمور الأحرار، والمرابطون، والظاهرة العسكرية-السياسية للعماد ميشال عون. الخ، كلها (ما عدا حركة أمل) انتهت بعد حروب وتسويات وصفقات، وكان للتنسيق السوري-الأميركي-الخليجي (سعودي أو كويتي أو قطري) دورٌ في كبحها أو إنهائها في معظم المرّات (ما خلا الاجتياح الإسرائيلي الذي دمّر البنى التحتية الفلسطينية).

اليوم في لبنان قوة عسكرية-سياسية-اجتماعية-اقتصادية كُبرى لها دور مفصلي في الداخل، وأدوار إقليمية عديدة، وتتمتع بقوة عسكرية مُدرّبة ومنظّمة بدقة كبيرة، ومدجّجة بأسلحة لا يعلم كل أسرارها الا مجموعة قليلة من قادة الحزب (وربما ليس جميعهم). هذه القوة يراها البعض حامية للبنان والبعض الآخر مدمّرة له، اسمها حزب الله.

حزب الله بين الحلفاء والخصوم

للحزب حلفاء أقوياء، لم يخذلوه حتى الآن في الاستراتيجيات الكُبرى، وهم الرئيس ميشال عون من على رأس الدولة والتيار الوطني الحر ( رغم بعض التباينات)، والرئيس نبيه برّي من على رأس مجلس النواب وحركة أمل (رغم كثير من التباينات الداخلية)، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، والحزب السوري القومي الاجتماعي، ورئيس الحزب الديمقراطية  الأمير طلال أرسلان، وتيار التوحيد بقيادة وئام وهّاب، وشخصيات سياسية ودينية وازنة في طوائف أخرى ( حتى داخل الأرمن)، لا يتسع المجال لذكرها جميعا في هذه العجالة.

أما خصوم الحزب فيتضاءلون يوما بعد آخر رغم كل الجهد ( كي لا نقول الضجيج ) الإعلامي، وقد تبادلوا الخذلان بين بعضهم البعض، فباستثناء الهبّة الشعبية التي نجحوا في جمعها بعد اغتيال الرئيس الشهد رفيق الحريري عام 2005 وحصلت على تعاطف ودعم دوليين ورفعت شعار ” ثورة الأرز”، وما سبقها من انسحاب للجيش السوري والقرار 1559، فإن خصوم الحزب سرعان ما تشتتوا، وزار الرئيس سعد الحريري وكذلك رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط دمشق للتصالح مع الرئيس بشار الأسد ( بتشجيع سعودي وواقعية سياسية)، وصار أطراف قوى 14 آذار، بعضهم يُنسّق علنا أو تحت الطاولة مع الحزب عند كل انتخابات او قضية، وبعضهم الآخر، يداريه، وقلة تُجاهر بمعاداته، إما قناعة ( وهذه نادرة) أو لفتح خزائن خليجية وجذب دعم دولي.

الواقع أن لا حرب 2006 ولا الهجمة العسكرية التي شنّها مقاتلو الحزب على بيروت وبعض المناطق اللبنانية ردا على تعطيل الخطوط الهاتفية الأرضية للمقاومة في 7 أيار من العام 2008، ولا الاغتيالات التي اتهمت قوى 14 آذار الحزب بالوقوف خلفها، ولا المحكمة الدولية، ولا ثورات وانتفاضات الربيع العربي، ولا الحرب السورية التي أريد لها أيضا اضعاف الحزب، لا شيء من كل ذلك أضعفه، بل عرف في كل محطة كيف يجعل من الهجمة عليه ورقة إضافية في ميزان قوته.

كان الحزب يزداد قوة، ويتمدّد أكثر في الجسد اللبناني وفي معابر السلطة ومرافقها، بينما خصومه يحاولون، عبر الإعلام فقط، إقناع مناصريهم في الداخل وحلفائهم في الخارج، بأنه ضعيف وأن بيئته وهنت، وأنه صار مطوّقا أيما تطويق.

انهيار بعد بداية نهاية الحرب السورية

مع دخول الحرب السورية منعطف نهاية المعارك الكُبرى واستعادة القيادة المُدن الكبرى ومعظم أريافها والغوطة، كان طبيعيا التفكير بأن الحزب ومن خلفه إيران وقيادة الرئيس بشار الأسد ومعهم روسيا، سيتصرّفون على أساس أنهم ربحوا هذه الحرب العسكرية، وأنهم صدّوا فكرة اسقاط الأسد بالقوة، لا بل هم انتقلوا الى مرحلة ترسيخ قيادته لتبقى سنوات كثيرة مُقبلة، خصوصا مع عودة دول عربية وازنة الى فتح سفاراتها في دمشق.

لعل تلك اللحظة بالضبط، أي بداية نهاية الحرب السورية منذ أواخر العام 2009، تؤرّخ فعليا، لبدء الانهيارات الكُبرى اللبنانية، وهو ما دفع الحزب للتأهب ضد كل تحرّك لبناني داخلي واسع واتهامه بأنه مشبوه. هكذا تعامل مع انتفاضة 17 تشرين 2019 الشعبية مشيرا على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله الى أن السفارات تحرّك الناس وأن لديه معلومات حول الشبهات والاختراقات، وهكذا تعامل مع الطوق الاقتصادي ونهب الودائع المصرفية، وهكذا أيضا مع التحقيق في انفجار (الأرجح تفجير) المرفأ وفقد المواد الغذائية والأدوية وصولا الى البنزين والمازوت وغيره.

أما خصوم الحزب (ولا نعرف تماما من هم الحقيقيون والوازنون بينهم ، (باستثناء القوات اللبنانية وبعض الشخصيات التي لا ثقل مؤثرا لها في التوازنات الكبرى) فهم يحمّلونه مسؤولية الأمور نفسها التي يشكك بها. بحيث يعتبرون أن ” هيمنته على القرار ” هو سبب التطويق الدولي الاقتصادي، وبالتالي سبب الانهيارات، ويتهمونه بإخفاء نيترات الامونيوم في المرفأ وارسال بعضها الى سورية، وبتفكيك دعائم الدولة عبر الإبقاء على سلاحه خارج الشرعية، وبالتفرّد في قرارات السلم والحرب مع العدو الإسرائيلي، وبالسعي لتعديل النظام الحالي، وبأنه يقدّم مصلحة إيران على مصالح لبنان…الخ.

سيقول قائل إن كل هذا ليس بجديد، فهذا الانقسام الحاد في لبنان مستمر منذ سنوات، وأن ثمة من وصل به الأمر الى حد تمنّي انتصار داعش والنصرة في سورية، وانتصار إسرائيل على حزب الله في لبنان، فما الجديد اليوم ؟

الجديد اليوم 4 أمور أساسية بعضها داخلي وأبرزها خارجي:

  • يعتبر خصوم حزب الله في الخارج الإقليمي والدولي، أن الفرصة تزاد كلما زاد الانهيار لتطويق الحزب، وتعزيز شعور اللبنانيين بضرورة المضي قدما في إضعافه واضعاف كل الجماعة السياسية التقليدية من خلال الانتخابات المقبلة. وهم يرون فعلا أن الحزب محشورٌ في الداخل أكثر من أي وقت مضى وأن شعبيته تضاءلت كثيرا خارج بيئته.
  • يعتبر خصوم الحزب أنه في مرحلةِ ضبابيةِ التفاوض الأميركي -الإيراني والإيراني-السعودي، ليس مسموحا انتعاش الوضع اللبناني الذي من شأنه إنعاش الحزب وتخفيف الضغط من حوله وإنعاش عهد الرئيس ميشال عون. وهم يعتقدون بأن أميركا تدعمهم تماما في هذا التوجه للاستمرار في تطويق الحزب وإقلاقه طيلة الوقت.
  • يعتبرُ الحزب بالمقابل، أن أي ايحاء بالضعف من قبله، سيسمح بزيادة الضغط عليه، ولذلك هو تحرّك اقتصاديا واجتماعيا في داخل بيئته، ورد عسكريا على إسرائيل ويرفع مستوى التحديث عبر بواخر النفط الإيرانية الموعودة.
  • يشعر الرئيس ميشال عون وفريقه أن الأمر الأبرز الذي يُمكنه تحقيقه قبل انتهاء العهد، هو القول إنه الرئيس الذي حاول استعادة محورية القرار المسيحي الذي يعتبر أنه ضعف كثيرا منذ الطائف وضعُف أكثر منذ اتفاق الدوحة، ولذلك فهو يعتبر أن أي تنازل في هذا المجال أمام أي رئيس حكومة مستحيل حتى لو استمر الانهيار الكبير. فما عاد لديه ما يخسره خصوصا بعد العقوبات الأميركية على صهره ورئيس تياره جبران باسيل والتي تعيق ترشّحه الى رئاسة الجمهورية، وسوف يستمر في استخدام الورقة القضائية والملاحقات القانونية حتى آخر يوم من عهده (كان آخرها مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان) .
  • يشعر أهل السُنّة أن الرئيس المسيحي يهين المركز الأول عندهم عبر الجولات المكوكية التي لا تنتهي والتي يُضطر كل رئيس حكومة أن يقوم بها الى بعبدا للحصول على موافقة رئيس الجمهورية على أسماء الوزراء، ولذلك فهم لن يقبلوا بأي تنازل بعد اليوم، خصوصا أن بعضهم يعتبر أن جزءا من الغضب السعودي عليهم هو بسبب وهنهم أمام حزب الله والرئيس عون.
  • يشعر الجميع بأن ثمة لحظة مهمة لإعادة النظر بالنظام اللبناني، فتقلق بعض الأطراف ( خصوصا بعض المسيحيين والأقليات)  من أن تكون أطراف أخرى تستعد لتغيير التوازنات في سياق التفكير بتركيب نظام جديد ( وهذا ما يُفسّر رفع مستوى خطاب البطريرك بشارة الراعي مثلا).

المنتظر مُقلق الا اذا 

من غير المُمكن فهم التعقيدات السياسية والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان بدون هذه الأسباب، وهنا سنكون أمام احتمالين، فإما تنضج الصفقات في المنطقة فتنتقل آثارها وعدواها الى لبنان، وإما تتعقد فتلقي بأثارها الأمنية على الداخل اللبناني، فتتعدد التفجيرات الأمنية والاغتيالات والاشتباكات المتقطعة مع استمرار تدهور العملة، وقد تثير أزمات أمنية أخرى عبر الحدود وفي سورية. أما الاحتمال الثالث، ورغم ضعفه الشديد الآن، فيقول إن لا مجال لإضعاف حزب الله بلا حرب كُبرى تليها صفقة كبرى. هنا يكمن الخطر التدميري الأكبر والذي لا أحد يستطيع التنبوء بيومه الثاني، فالحزب اقوى بأشواط كثيرة من كل الحركات المسلحة اللبنانية السابقة، والحرب معه ستكون كبيرة الدمار على جانبي الحدود وليست محسومة النتائج أبدا.

لكن هل ثمة دور سوري ممكن في المستقبل اللبناني كما يخشى البعض؟  الجواب في المقال المُقبل.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button