أدونيس بين حوتين عربيين: واحد يحكُم وآخر يثور
لُجين سليمان-الصين
في كتابه “موسيقى الحوت الأزرق” الصادر عام 2002، يحكي الكاتب السوري العربي ذو الانتشار العالمي “ادونيس” قصة بلاد عربية، عانت من فوارق استراتيجية، فلا الحاكم أنصف ناسها، والا الثوريون أنصفوها، فانزلقت للعيش في حالة من الأيديولوجية الواحدة، وساد العنفُ في كل التفاصيل بما فيها الأدبية والشعرية. وبعد الحكاية، يصل أدونيس الى خلاصة مفادُها: أن لا خلاص الا بالتسامح، ذلك أن البلاد لا تُبنى بالحقد
لم يشرّح أدونيس التفاوت كأي اقتصادي آخر من الذين ينسبون الفوارق الاجتماعية إلى فوارق اقتصادية، بل أكدّ على تفاوت من نوع آخر، تفاوت استراتيجي ينجم عنه أفرع تفاوتية صغيرة، تتسلل إلى المجتمعات فتعيق تطوّرها، ويقول: “إن التفاوت في بلداننا العربية يفكّك المجتمع ويشل حيويته، فيسهل على من يتأمل حياتنا العربية أن يرى ثلاثة أنواع من التفاوت:
- التفاوت بين المؤسسة السياسية الإدارية من جهة والضرورات الداخلية الملحة للتطور الاجتماعي الاقتصادي الثقافي من جهة ثانية
- التفاوت بين طاقتي الإبداع والتلقي
- التفاوت بين قدرات الإنتاج وشهوات الاستيراد الاستهلاكي”
هي نوع من الفروقات التي تحدث ثورات اجتماعية، تلك الثورات التي لم يحالفها الحظ يوما بالنجاح والتطور في منطقتنا العربية عموما، ولذلك تحوّلت الثورة إلى أمل، وإلى شعارات أطلقها بعض الثوريين، هي رومانسية الثورة، ورثتها القيادات الثورية العربية عموما عن الاتحاد السوفييني، وفق ما نفهم من الكاتب-الفيلسوف الذي يقول “لم تعمل الثورات العربية على القضاء على هذا التفاوت بل باسم “الآمال الثورية” تغاضى المثقفون عن الدكتاتوريات وصفّق بعضهم لها وقبلوا نظريات “الواحد” و “الواحدية” حزبا وحاكما وفكرا”
هو وصف دقيق لحالة خطرة، عندما يتحول الثوري إلى مصفّق، فيصعب التميييز بين الحاكم والثورجي، وبهذا تندمج الثورة بالسلطة فتموت، فهل من ثورة تقوم على أكتاف سلطة، لا سيما عندما يتبنّى الحاكم شعارات إصلاحية مطعّمة بنفس ثورجي، يضيع فيه المجتمع، وعندها يرى جزء من الجمهور البسيط أن السلطة هي الثورة، يقول أدونيس ” إن فكرة الثورة كما مورست ولّدت ماهو أخطر من ذلك، حولت كل بلد عربي إلى ما يشبه المعسكر لا بالدلالة الحزبية وحدها وإنما بالدلالة الثقافية ايضا وبذلك لم نختلف ماديا ومعنويا بفعل الثورة وإنما تخلّفنا إنسانيا، فبتنا نحيا في “حساء فريد يجمع الوطني والخائن في ماء واحد وصحن واحد وكلاهما بين اللحظة واختها يأخذ اسم الآخر ويهبط في جلده.”
وبذلك وبعد أن تنضوي الثورة تحت لواء الحاكم، يبدأ العنف، عنف له أشكال مختلفة، فيصبح أسلوب حياة، وتختلف الطرق التي نمارس بها العنف، دون أن ندرك أننا عنيفون، هو عنف لا يقتضي رفع العصا في وجه الآخر، بل يكفي أن نبرّر العنف بالقول بأنه ظاهرة موجودة عند جميع الشعوب. ” قد يقول لك بعضهم العنف موجود عند الشعوب كلها في التاريخ كله، وهل هذا تسويغ للعنف، أهو قبول به أهو التماس أعذار لأسبابه؟” يضيف أدونيس
لا يقتصر تبرير العنف على قبول انتشاره عالميا، أو امتداده تاريخيا، لا بل يمتدّ إلى نفي الآخر إلى الجحيم، لمجرّد أنه خالفنا الرأي، ربما هو الأمر الذي نعيشه اليوم في سوريا التي بات فيها الانقسام ما بين مؤيّد ومعارض، يقتضي أن يقوم كل طرف بدفع الآخر إلى الجحيم لمجرّد مخالفة الراي، ويتحدّث أدونيس عن هذا الأمر قائلا: ” ثمة ظاهرة خطيرة من ظواهر العنف تسود حياتنا العربية ونعيشها كأنها خبز يومي قلما نقيم فاصلا بين الشخص وأفكاره فإذا كرهنا الشخص كرهنا أفكاره مهما كانت والعكس صحيح..التنابذ فكريا وإنسانيا يهيمن علينا لا تفاعلات ولا تراكمات في المعارف والخبرات بل تناف وانقطاع.وفي ذلك دليل على ضحالة رؤيتنا المعرفية والإنسانية وعلى ضعف حسنا المدني.
ويضيف “أن التمييز بين الإنسان وآرائه دليل على حس رفيع إنسانيا وفكريا. وكأننا نعتقد أننا كي نتخلص من الافكار المعارضة يجب أن نتخلص من أصحابها”.
لربما عدم الفصل بين الشخص وأفكاره هو من الإجراءات التي تمارسها السلطات عادة في سبيل القضاء على معارضيها، يقول أدونيس عن هذا الأمر ” ألا يدافع هؤلاء ضمنيا عن نوع من حق مطلق يتمتع به بعضهم أفرادا وسلطات؟ حق يجيز لهم أن يفعلوا ما يشاؤون وان يقذفوا بكل من يخالفهم إلى الجحيم. أفلا يبدون كأنهم يؤمنون أن الحقيقة لا تتأسس إلا بالعنف. وهكذا يعملون على خلق لغة وثقافة لتمويه العنف أو السكوت عنه لتحويله كذلك إلى ضرورات تاريخية أو مرحلية وربما إلى انتصارات وإلى مآثر ومفاخر.. كأنهم يقولون لمواطنيهم: لا حقوق لكم، فأنتم لستم إلا مكلفين بالخضوع والطاعة”.
يشقّ هذا العنف طريقه، ليصل إلى النص والكتاب والفكرة الشعرية، هي بالفعل تربية مؤدلجة تجعل كل ما يخالفها عدوا، فلا يعود المرء يفكّر إلا بالطريقة التي سيخوّن بها الآخر، أو بالأسلوب الذي سيقول فيه للآخر “إنك عميل” هذا الاتهام البسيط الذي بات اليوم يوجّه لمجموعة من الكتاب فقط لأنهم لم يقرأوا الواقع من خلال نظرة مؤدلجة، وهذا ما يشرحه أدونيس بقوله ” كل قراءة لا ترى النص وبخاصة الشعري إلا عبر منظور إيديولوجي إنما هي قراءة عنفية ذلك أنها تسجن النص في منهجها وتعذبه بأدوات هذا المنهج، وكل قراءة للنص وحيدة البعد ووحيدة النظر إنما هي قراءة عنفية ذلك أنها تفقره وتقلصه وتختزله. وكل قراءة للنص سياسية إنما هي قراءة عنفية ذلك أنها تسطحه وإذ تسطحه تلغيه”.
لا يقتصر هذا الأمر على النص بل يمتدّ إلى التاريخ الذي غالبا ما ” يكتبه المنتصرون”، يقول الكاتب “تهيمن على تاريخنا قراءة رسمية وحيدة النظرة ووحيدة البعد ومثل هذه القراءة لا يمكن أن تكون إلا عمياء عدا أنها قائمة على العنف والعنف خصوصا أنها تعرقل قراءات أخرى”
ويسقط أدونيس حالة الشعر على الحالة العربية بأكلمها، فيصف الواقع العربي من خلال وصفه للشعر، فيرى ان بعض النقاد يرون النص مسبقا تحت مجهر اليقينيات تطبيقا للمقولة “شعر لا يلتقي بيقينياتنا ليس منا” تطابقا مع القول السياسي “من ليس معنا فهو ضدنا”
يستخدم الكاتب السوري الأصل العالمي الانتشار عبارة “وطنية الإزاحة” أي تلك التي تصدر عن وعي زائف، وهي تبعا لذلك حاجة تريح صاحبها وتضمن له واقعه، فهذه الوطنية هي حاجة واستهلاك
كلّ ما سبق يولّد مجتمعا منصهرا في أيدلوجيا واحدة، تطرد كل ما يخالف، وترفض كل من لا يصفق، وهو ما يرجعنا إلى نقطة العنف السابقة الذكر، فحتى البحث عن الحقيقة في الماضي، يصبح فعلا إجراميا، فلا حقيقة سوى ما تنطق به الدولة يقول أدونيس “هكذا يرى المجتمع كله منصهرا في نظامه ويرى تبعا لذلك أن تمويه الجوانب المظلمة في الماضي أو عدم البحث فيها عمل وطني وأن الكشف عنها نوع من الخيانة، فهذا هو أيضا حاجة يجب أن تظل صالحة للاستهلاك الشامخ وطبيعي أن هذه الحاجة تحتاج بدورها إلى أدب الزهو والفخر والأمل المشرق” ربما هو ما يقال في الكثير من الدول العربية وما نصفه في سورية ب “زقزقة” العصافير فلا حزن ولا كآبة ولا هموم بل إن الشمس تشرق كل يوم في هذا الوطن وتزقزق معها العصافير، ولذلك ما علينا سوى ان نشمخ، ونرفع رؤوسينا كالسنابل الفارغات”
هو الشموخ الفارغ الذي يلغي التعددية ويلغي الآخر بعنف، فلا يناسبنا إلا الفكر الواحد ، أو ما يصفه الكاتب بالقول “تاريخ المجتمع هو تاريخ الجهر بأفكاره وتعدديته، لا تاريخ لمجتمع صامت أحادي النظر والفكر والفكر المتعدد جهرا هو ما يؤسس لتاريخ المعنى. وان زوال التعددية في المجتمع زوال لتاريخه، المجتمع نفسه يفقد اجتماعيته ويتحول إلى قطيع، فلا أحادية إلا أحادية الخالق”
وأما عن الرقابة تلك المزحة التي اعتدنا نصفها بالقول إن “للحيطان آذان” ونضحك بألم لأننا غير قادرين على المجاهرة بخوفنا من الآخر، لأن الكل يراقب الكل، وفي هذا يقول أدونيس ” لا يكمن خطر الرقابة في ممارستها وحدها يكمن ذلك وعلى نحو أشد في دلالتها إن منع قصيدة أو أغنية أو كتاب لا ينحصر في حدود القتل الثقافي وإنما يتخطاه إلى قتل فعل التفكير وفعل الإبداع وفعل المسؤولية وتبعا لذلك قتل الإنسان نفسه كاتبا وقارئا على السواء”.
لا حلّ لهذه المعضلة سوى التسامح الذي من الممكن أن يرفعه شعارا رجل السياسة كي يقول أن القادم أفضل، وهذا ما ينصح به أدونيس بقوله ” يعلمنا ماضينا أن رجل السياسة لا يشارك إيجابيا في صنع تاريخنا الحضاري بمجرّد مؤسساته وأجهزته وإنما يشارك بقدر سماحته الفكرية وتمجيده لحريات الإنسان. ذلك ان الدور الاساسي للسياسي الحاكم ليس في مجرد استمرار نظامه على العكس في رعاية القوى الإبداعية والإنتاجية”.
تشكّل الأفكار الواردة في الكتاب، حكاية مؤلمة لثغرات مجتمعية، أنتجت آمالا لا ثورات حقيقية، لم تلبث سقطت في ظل الفوضى والأيديولوجية الواحدة، وذلك ضمن إطار لغوي ساحر.