سامي كليب
عشتُ شخصياً قصةً غريبة تحملُ الكثيرَ من رسائل المحبّة وأنا محجورٌ كغيري في منزلي بسبب “كوفيد 19” (كورونا). ففي أحد الصباحات الربيعية المنعشة بنسماتٍ تلاطف الوجه، شاهدتُ حمامةً تأتي بين ساعة وأخرى، تضعُ بعضَ القشِ على حافةِ نافذةِ الضيوف. وصارت عيدان القشُ والشجر الرفيعة، تأخذ رويدا رويدا شكلَ الدائرة، ما يوحي بأن الحمامة تبني عشاً. حَرِصتُ ألاّ أقترب من الشرفة طيلةَ فترةِ بنائِها العش، خشيةَ إخافتها فتهرب، وأنا ما أردتُ هروبَها لأني استأنستُ بذهابها وإيابها وبنائها صرحَها الصغير الدافئ، وتعلّمت من صبرِها الكثير.
بعد أيام كاد شكلُ العشِّ الدائري يكتمل، فعجِبتُ لهذا الاتقان الهندسي الرائع، وتساءلتُ مِرارا عن سرِّ الكونِ، وعظمةِ خالِقِه، وعن عجائبِ الغرائز التي جعلت كلَّ ما يدبُ على هذه الأرض أو ينبت من تحت تُرابها، يعرفُ تماما كيف يعيش ويأكل ويحمي نفسَه وينسجمُ مع كل ما حوله ويتآلفُ مع الطبيعة. باستثناء الانسان، الذي لا يقتل لحاجةِ الأكلِ كما يفعل بعضُ الحيوانات، وانما لمتعةِ القتلِ في الكثير من المرّات.
لا أدري إذا كانت الحمامةُ قد انتبهت لوجودي بعد حين، لكني كنتُ أراها تتلفتُ يساراً ويميناً كلما وضعت قشّةً وكأنها تَختَبِرُ المكانَ، وترصدُ أيّ خطرٍ محتمل، أو تريدُني أن اعتادَ عليها، فلا يعلمُ كلَّ أسرار المخلوقات الا خالقُها، وربما كلُّ ما نعلمُه ليس الا النذر اليسير. فقد قرأتُ قبل فترة وجيزة كتابا عن ” لغةِ” الأشجار وأحاسيسها، وكيف تتخاطب في ما بينها عبر الريح أو الجذور لتناقلَ وجودَ خطرٍ، وكيف أن لديها 12 حاسة أكثر من حواس الإنسان.
كنت الحمامةُ تنظرُ الى كلّ ما حولها كلما وضعت قشةً حملتها من مسافةٍ طويلة فوقَ بيتِها الصغير. وأنا كنتُ هنا أراقبُها بخفرٍ كي لا أزعجُ عمَلها، وكان يقيني أنها شعرت بما أُكنّه لها، فصارت، تأتي بقشٍ أكثر، وتتلفتُ حولها أقلّ من السابق، وراحت تُطلقُ أصواتاً ناعمةً وعميقة ًلا تُشبهُ هديلَ الحمام، وإنما تُشبه الهمهمةَ، أو الوشوشةَ، وأنا قرّرتُ أن هذا الكلامَ لي، وأنه صارت بيننا علاقةُ ودّ.
غبتُ عن بيتي ثلاثةَ أيامٍ لزيارة منزلِ أهلي في الجبل، وحين عدتُ وفتحتُ البابَ، سارعتُ الى نافذةِ غُرفةِ الضيوفِ، لأعرفَ أين أصبحت الحمامةُ وعشّها، لكن مفاجأتي التي قاربت الصدمةَ العاطفيةَ، سُرعان ما احتلت مكانَ الشعورِ بالفرح، حيث لم أجد من العشِّ الاّ قشة يتيمة صفراءَ اللونِ، تستعدُّ للسقوطِ من الطابق الثاني، وكأنها ما طاقتِ العيشَ وحيدة بعد رحيل رفيقاتها فقرّرتِ الانتحارَ. فتحتُ زجاجَ النافذة غيرَ مصدّقٍ أن صديقتي الحمامةَ هجرت. فكّرتُ بكلّ الاحتمالات، بما فيها أن يكون أحدُ الجيران قد أخافها، أو انها شعرت بغيابي ليومين، فلم تَستَسِغْ أن أهجُرَها بلا سببٍ ولا خبر، فعاقبتني بالرحيل الدائم.
قال الأديبُ والشاعر الفرنسي الإنساني “ألفونس دو لامارتين” الذي عشِق شرقنا وعاشَ فيه وسكنَ في حضرة الطبيعة الخضراء الغنّاء في أعالي جبل لُبنان: ” يكفي أن تفتقدَ شخصاً حتى تشعُر أن الكونَ مقفرٌ“. هكذا شعرتُ بلحظةِ الفُراق، واستمر شعوري طيلة الصباح، لكن مشاغلَ النهار وتعقيداتِ العملِ في زمنِ كورونا، أنستني بعضَ الفُراق، وكدتُ أنشد ” كانت بقربي حمامةٌ”، كما أنشد أبو فراس الحمداني من سجنِه الحلبي :” ناحت بقربي حمامةٌ”. غير أني تعلّمت في هذه الحياة، ألاّ أتركَ الحزُنَ يُسيطر عليّ وأن افتحَ بدل الباب أبوابا للأملِ والفرح، فبرّرتُ لها غيابَها، وقلتُ في نفسي: لعلّها الآن في مكانٍ أكثر أمنا لأطفالها المقبلين.
أما المفاجأةُ الثانية، فكانت مع حلول المساء، فما أن دخلتُ الى غرفةِ نومي، وأضأتُ الإنارةَ، حتى رأيتُها هناك، رابضةً في وسطِ العشِ الذي اختارت أن تنقلَه الى شرفةِ غرفةِ نومي. لا أدري لماذا فعلت هذا، ربما لأن على شُرفتي شجيراتٍ صغيرةٍ وبعضَ صنوفِ الورد والحبقِ والياسمين والنعناع، لعلّها وجدت في هذا المشهد الطبيعي، ما يُشبه طبيعتَها، من خُضرةٍ وأريج، لكن ماذا لو أنها جاهدت بنقلِ العشٍ، قشّةً قشّةً على مدى ثلاثة أيام لتصبحَ أكثرَ قُربا منّي؟ فكرتُ بهذا الاحتمال الأخير، لأنه أجمل، فالمُحبّ غالبا ما يخترعُ مبرراتٍ للمحبوب حتى ولو لم توجد.
أطفاتُ ضوء الغرفة، كي لا أزعجَ هناءتَها الواضحة، وراقبتُها قبلَ نومي حتى استولى النعاسُ على عيني. وفي الصباح الباكر، كان العشُ وحيداً مع ثلاث بيضات صغيرات. لا شك أن الحمامةَ ذهبت لتأتي ببعضِ غذائها. فتحتُ النافذَة، ووضعتُ لها حبوباً من القمح والبرغل والعدس وشيئاً من قطعِ التفّاح، لاعتقادي بأنها هكذا ستجدُ ما تُريد قربَها، وتبقى الى جانب أطفالهِا الذين يكبرون يوما بعد آخر داخلَ هذه الدوائر البيضاوية البيضاء.
حاولتُ في اليوم الثالث، أن أكرّر الأمر وهي رابضةُ وسط العش. لعلّها فوجئت بيدي تمتدُ الى قربها، فهربت محلّقةً صوب المبنى المجاور، ربما لأنها ما اعتادت على الانسان الا قاتل نظرائها وأطفالها، وهبطت على شرفةٍ مقابلة لشرفتي. راقبتني قليلا، ثما حلّقت مُجدّدا وعادت مطمئنةً تنقدُ الحبّات واحدةً تلو الأخرى بنهمٍ لافت. فصرتُ كلّ يوم اضعُ لها الوجبة نفسَها، وما عادت تهرب، وإنما صارت تُهمهِمُ بما يُشبه الوشوشةَ أو الغناءَ الخافت.
بقينا على هذه الحال، هي وأنا، حتى فقسَ البيضُ وخرج الأطفالُ الثلاثة معافين سالمين. وصارت تذهبُ وتعود لهم بالطعام المناسب لهم، وأنا أضع لها كل ما أعتقدُه مفيدا ومناسبا لها.
مرةً ثانية اضطررت للغياب ولكن لنحو أسبوع، فوضعتُ لها على الحافة حبوباً تكفي لفترةِ غيابي وكوبا من الماء. وفكرتُ بحالها مع أطفالها غير مرة، ودعوت الله أن يحميَهم حتى تكتملَ تربيتُها لهم وأن لا تقع عينُ صيّاد مُجرم عليها فيقتُلُها وهي في أوجِ أمومتها.
لم أعلّق أمالاً كثيرة على بقائها بعد تفقيس البيض، فالأطفال سيكبرون ويرحلون، وهي ستتابعُ حياتَها كما كان شأنُها قبلَ العشِّ. هذا ما حصل فعلا، فحينَ عدتُ بعد نحوِ أسبوع، رأيتُ العشّ فارغاً. ما عاد شكلُه دائرياً. تناثر قشّاً فوقَ قشٍّ على الشرفة بفعل نسماتِ الربيع، فتذكّرتُ عنترةَ بن شدّاد يخاطبُ أطلالَ دارِ حبيبتِه مُنشداً : ” يا دارَ عَبْلةَ بالجواءِ تكلّمي/ وعِمي صباحاً دارَ عبلةَ واسْلمي“.
مع ذلك كنتُ وما زلتُ مؤمنا بأن المحبةَ العميقةَ الصادقةَ، والحبَّ الحقيقيَ، لا ينتهيان ولا يتناثران، وإنما يبقيان في مكانٍ ما من هذا العالم، وفي مكانٍ ما داخلَ القلبِ والروحِ والوجدانِ، ليفيضا سحراً وجمالاً ومحبةً أكبر.
كان إيماني بمكانِه، لكن ما رأيته كان أكثرَ بكثير مما آمنت به. يبدو أن الحمامةَ جاءت بحبتين قبل رحيلها وأطفالها، وحفرت لهما مكاناً صغيراً في تربةِ حوضِ الوردِ، فصارا نبتةً خضراءَ غريبة المظهر جميلة الأوراق، ثم شجيرة، ثم شجرة ممشوقةً القدِّ ترتفعُ اليومَ الى نحوِ مترين ولم أرَ مثلَها في حياتي، لها زهرةٌ تُشبهُ الياسمين قبل تفتُّحِه، وجذعٌ يُشبه جذوعَ قصبِ السكّر بطولِه وملمسِه الناعم.
لم أبحث كثيراً عن سرِّ ما حصل، وإنما ازدَدتُ قناعةً بأن المحبةَ تُنبتُ محبةً أكبرَ، وأن الحمامةَ ربما فعلت هذا غرائزيا، أو بالصدفة، أو عمدا كعربونِ عرفان ومحبة. من يدري؟ وهذا أمر ساحرٌ فعلا في زمن كورونا يُذكّرنا بأن علينا العودةَ الى نعيمِ طبيعةٍ هجرناها من أجل اللاشيء سوى وهم الحداثة.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…