حي الأميركان: روايةُ تناقض التطرف والحب.
ديانا غرز الدين
هي مدينة رغم صغرها و تهميشها ، استطاعت ان تكون جزءاً من احداث كبرى تجري في العالم. وهي رواية تصور نبض هذه المدينة عبر الزمن بكل تفاصيلها الحياتية اليومية من خلال خلطة مجتمعية تجمع بين عالمين متناقضين يربط بينهما خيط خفيّ و يجمع بين شخصياتها وحدة مصير على رغم اختلاف و بعد مسارات هذه الشخصيات و ظروف عيشها.
رواية “حي الأمريكان” للروائي اللبناني جبور الدويهي الذي غيبه الموت قبل ايام قليلة تاركا خلفه تُراثا أدبيا رفيعا وسُمعة فكرية وابداعية نموذجية وتجربة اكاديمية رائدة ، هي رواية تفاصيل مبهرة اعتمدت أسلوب السهل الممُتنع المباشرة بلا تعقيدات البلاغة والزخرفة الكلامية. فهنا الحدث هو الأهم وكذلك رصد الانفعالات الانسانية بعمق و كثافة.
هي رواية قصيرة لكنها على درجة عالية من التركيز تختصر الاحداث التي طرأت على مدينة طرابلس اللبنانية باسلوب يتميز بقدر كبير من الاحتراف و التماسك. نعرفُ من خلالها هموم الكاتب الذي يحمل اوجاع وطنه و هموم الطوائف و هو يوثّق ويرسّخ فكرة العيش او التعايش المشترك من خلال خلق واقع مركب في روايته مواز للواقع الحقيقي .
يروي الدويهي حكاية طرابلس عبر العلاقة بين ابن احد اعرق العائلات الطرابلسية و ابن حي الاميركان احد افقر الاحياء في المدينة ، فيدخل الى حياة الفقر التي تؤدي الى التشدد الديني و الانغلاق الذي يدفع بشبابنا الى الانخراط في جماعات متطرفة ترسلهم الى بلاد اخرى في عمليات انتحارية . و تتطرق الى ظروف المجتمع و السياسة على حد سواء، من تناحر الطوائف الى التشدد الذي وجد بيئة خصبة بين معظم فئات السكان، الى عواطف انسانية غاية في الجمال و العمق.
حي الاميركان هو حي صغير مهمش مستنقع للفقر و بيئة مناسبة لانتاج الشباب المتطرف نتيجة للجهل و الانقياد الاعمى الى التطرف و ارهاب الجماعات الدينية. هناك يستيقظ الناس يوميا على اصوات الانفجارات و مداهمات الامن لاوكار الارهاب في أجواء عابقة برائحة الدخان و البارود. أما نقيض هذا العالم القاتم، فيتمثل في المدينة نفسها و مناطقها الراقية حيث تعيش طبقة النخبة التي تستيقظ على موسيقى الاوبرا والمقطوعات العالمية.
في حي الاميركان يجد اسماعيل محسن نفسه مجندا للقيام بعملية انتحارية في العراق ، يفشل في مهمته و يعود الى الوطن ليجد نفسه مطلوبا بتهمة الارهاب ، بعد ان تراجع عن تفجير نفسه في الحافلة لحظة انتبه لوجود طفل يشبه اخاه. و بدل الضغط على الحزام الناسف قام بعمل حركات طريفة لاضحاك الطفل.
” و أعداء الله و الاسلام؟ فأجاب الشيخ بحدة ان ليس للاسلام اعداء اكثر ضررا من بعض المسلمين. “
على مر السنين كان آل العزام ملجأ لآل محسن الذين خدموهم لسنوات طويلة. و سيجد اسماعيل ملجأه الآمن لدى عبد الكريم، وريث آل العزام الشاب الغريب الاطوار والعاشق الخائب العائد من باريس بعد ان هجرته حبيبته الراقصة الصربية، فانطوى في بيته يعيش على ذكراها بسماع الاغاني و الموسيقى والعناية باشجار الليمون التي تركتها له.
تربط صداقة عابرة بين عبد الكريم ابن العائلة المرموقة و اسماعيل محسن الشاب الجهادي ابن السيدة انتصار الخادمة في منزل آل العزام . يحكي كل منهما للاخر عن خيباته و اوجاعه. يتأرجح اسماعيل بين العالم الذي دفعه اليه الفقر حيث انضم الى احدى المنظمات الجهادية جراء تأثره بالاجواء المحيطة به في الحي البائس ، و بين العالم الذي اختبأ فيه من الشرطة حيث الرفاهية في قصر عبد الكريم العزام. هنا يلتقي العالَمان في دلالة على عدم استحالة العيش المشترك بين فئات المجتمع من ابناء المدينة الواحدة. رواية سريعة الاحداث شيقة لا مكان للملل فيها.
“- ما الفائدة من هذه الاشجار؟
– تعلمني الصبر.
– فقط ؟
– و الحكمة. “
جبور الدويهي ” روائي الحياة اللبنانية ” من ابناء زغرتا ولد عام ١٩٤٩. حمل شهادة الدكتوراه في الادب المقارن من جامعة السوربون الفرنسية و عمل استاذا للادب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. له عدة روايات ترجمت الى عدة لغات و اختيرت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. رواية حي الاميركان صدرت لاول مرة عام ٢٠١٤ و نالت جائزة البوكر العربية ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام ٢٠١٥ . من رواياته اعتدال الخريف. مطر حزيران. شريد المنازل. آخرها كانت رواية سم في الهواء . توفي عن عمر ٧٢ عاما .