سامي كليب
في عالمٍ يغرقُ عاما بعد آخر بالماديّات ويطفو على بحرٍ من التكنولوجيا عديمةِ الروح، باتت العلاقاتُ الإنسانية بحاجةٍ الى إكسيرٍ عجائبي كي تستمرَّ كما أرادها خالِقُها، صافيةً، شفّافةً، نازعةً صوب الخير والحبّ والمحبة. لكن في هذا العالم الثائرِ عِلميّاً والباردِ إنسانياً، يفاجِئُنا بعض البشر بتحليقِهم عاليا في عالم الصفاء ومداركِ الروح، كأنهم خُلِقوا أصلاً حاملين رسالةً تُذكِّرُ البشرَ بأن الروحَ هي الأصلُ، وهي الجسرُ، وهي الرابطُ الخفي، بين مخلوقاتِ هذا الكونِ جميعاً، وفي تواصُلِها مع خالِقِها.
كنتُ قبلَ أيام قليلة جالِساً عند شاطئ البحر، أفكّر بكل النوائب التي تتكسّرُ فوق المصائبِ على مستوى العالم أجمع، وأتأمَّلُ فرحةَ الناس بالعودة الى شيء يُشبه الحياةَ بعد جائحة كورونا، وكان يقيني، كما هو دائما، أن أصلَ البلاء، هو ابتعادُنا عن جوهر الحياة، وركلِنا للطبيعة التي أهدتنا أجملَ ما عندها فبادلناها بأسوأ ما فينا، وهو تصنُّعُنا الإيمان، وتصنُّعُنا الحبَّ والمحبّة، فنردّدُ الصلوات ببغائيا، ونُكرّر كلامَ الحبّ عن ظهر قلب، ونُحسِنُ للغير طمعاً في جني ثمارِ ما أحسنّا، ثم نمضي في الحياة صوبَ الجشع والمالِ والمجد، وهي كلها أمورٌ زائلة.
كان بين يديَّ روايةٌ بعنوان:” ما دُمتَ معي”. تحكي قصة الصبية ” نور النهار” تلك الفتاة التي أُصيبَ جسدُها بداء السرطان، بعد أن كانت الحربُ اللبنانية وويلاتُها قد نهشت عقلها وقلبها وهي في ربيع العُمر. فما وجدت بلسماً لجراح القلب والعقل والروح، ولا دواء للمرض العضال، الا بذاك الجسر الروحي الذي أقامته مع “غريب”، الرجل الذي فَهِم جزءا كبيرا من جوهر الحياة، فخَافَه البشرُ لأنهم ما زالوا عند ضفاف المادةِ والوهم وأمواجِ الرغبات.
الروايةُ مكتوبةٌ بحبر الروح، وعلى من يقرأها أن يُسافرَ في رحلةِ الروح والصفاءِ صوبَ العالمِ اللطيف لا الكثيف، كي يُدركَ كلَّ ما قالته الكاتبة ليندا أبو مجاهد بين السطور والأحرف والكلمات. ذلك أن “نور النهار” التي تتقاطعُ حتماً مع شخصية الكاتبة ” تركت عالمَ البشرِ وسافرت بين طيّات الورق، فأبطالُ الروايات لا يموتون، وهي سئمتِ الموتَ، موتَ أبطالِها، موتَهم أحياء وأمواتاً”، ونور النهار:” كانت من أولئك الذين نسوا أنّهم أبناءُ الجسد، ومن الجسدِ انبعثوا، والى جسد الأرضِ سيعودونَ. كانت تتعثّرُ بروحها تنشدُ المتاهات المُغلقة داخلَ النفس البشريّة، وليس غريبا على من عَهِدَ الموتَ أن يعرفَ سرّ الحياة”.
كان كلُّ مَن حول “نور النهار” يبكون بصمتٍ على مصيرِها الذي اعتقدوه محتوماً، فكيف لسرطانٍ ينهشُ كلّ أحشائها، أن يخرُجَ منها دون أن يتركَها جثةً هامدة؟
من هنا بالضبط، من الجواب على هذا السؤال الُمستحيل، ترسمُ الكاتبةُ بلغتِها الأنيقة والعميقة والمشغولة على نَولِ سحرِ البيان، تفاصيلَ حياة “نور النهار”، بحلوها ومرّها، بيأسها وأملها، بتوقها للموت كجسر صوب عالمٍ أكثر رحمة وألطف، ثم تعلّقها بالحياة حين وجدت سرّ الحياة في كوخٍ خشبي عتيق في قرية ” الكفير” في البقاع الغربي. هناك كان ” غريب متكِئا على جذعِ شجرةٍ، وعيناهُ تلوحانِ في الأفق، وفي يده دفترٌ وقلمٌ. كان كَمَن ينظُرُ الى ما تراه الرّوح وتعجزَ عنه العين”.
هذا ” الغريب”، ما عاد غريبا، صارَ صُنوَ الروح، صار حبيباً بلا إعلان عن الحبّ، وصديقاً يرشحُ بالصفاء، وحكيما عجنته الحياة فصار خُبزَ الخلاص، ورفيقاً يؤنِسُ نورَ النهار بغيابه وحضوره، وأباً عطوفا بعدما قتلتِ الحربُ كلّ العواطف، وشقيقاً لم تَلِدْه أمُّها يقصدُ الهندَ باحثاً لها عن دواء للسرطان.
لا ندري، أهو سرطانُ الجسدِ فعلا، أم سرطانُ الروح، ذلك أن ” غريباً” تحوّل في الرواية من هدفٍ بحدِّ ذاته، الى جسرٍ لما هو أهم وأعمق، الى سيد الخلقِ وخالق الروح وكل هذا السحر من حولنا، الى جوهر الكون وما بعد الكون، الى حيث تهنأ الروح وتطمئن، فتنتعش الحواسُ بما هو أجمل من الحواس.
لم تُشفَ نور النهار، من السرطان، إنما تعايشت معه، وهزمته حتى آخته، فعاشت معه وعاش معها، هو يحاول القضاء عليها بالضربة القاضية، وهي تقضي عليه بالذهاب صوب معابر الحبِّ، والمحبة ومسالك الروح والعرفان.
” وأيُّ أمانٍ أعظمُ من أمان اللهِ؟ وأيُّ مرضٍ خبيثٍ سيجرؤ على الدُنوِّ من قلبها ويتجاسرُ على روحها بعد اليوم، وقد بدأت تجدُ أن اللهَ قريبٌ منها فيما هي هنا على هذه الأرض، وليست بحاجة إلى الموتِ ليوصلَها الى الشعورِ برحمتِه وعطفِه وألوهيتِه”.
هي رواية لطيفةٌ تقارعُ كثافةَ الحياةِ المادية، وأوهامَ مُجتمعاتِ نسيت الأصل وغرقت بالسلاسل، وهي لحظةُ فرحٍ حقيقي تناقضُ الضحكات المُصطنعة، وهي عميقةُ المعاني، قويةُ السبكِ، زاخرةٌ بالرسائل الإنسانية والروحانية، تُشبهُ الى حد بعيد ما أبدعه حُكماء الهند واليونان والشرق، وهم في الأصل من أصل واحد، تعاقبوا عبر العصور، وتكاملوا في منعرجات الروح ومسالك الصفاء.
عرفتُ الكاتبةُ قليلا من خلال بعض الأصدقاء المُشتركين دون أن أراها، وحين أقفلتُ روايَتها الأولى هذه الزاخرة بالحِكَمِ والعِبر، أيقنتُ أن من المُستحيل، أن يبثَّ أيُّ كاتب كلَّ هذا الكمِّ من شفافية الروح، دون أن تكون روحُه سائرةً في مسلكٍ آخر يختلف عن طُرق الكثير من البشر، ويقترب كثيرا الى مناجاة الصوفيين، وتأملات البوذيين، وإشراقات أهل العرفان الصادقين. فهو الغريبُ في عالم يتشابه، ولا تتآلف روحه الاّ مع الشبيه أو صنو الروح.
تقول ليندا أبو مجاهد في ختام روايتها:” إنها روحُ المحبّة والإخلاص تُكلّلُ عرشَ الوجودِ، فتحجبُ عن العيونِ حجابَ المادّةِ، لتهبّها من لدُنِها شُعاعاً نورانيّاً يخترقُ حواجزَ الجسدِ ليسكنُ الأعماقَ”.
—————————————————-
ما دُمت معي
رواية قصيرة وعميقة وجميلة تستحق القراءة كي تهنأ الروح. تجدونها في مكتبات بيروت
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…