آخر خبرافتتاحية

 لبنان بين فعلِ الحزبِ وقولِ البطريرك

 لبنان بين فعلِ الحزبِ وقولِ البطريرك

 سامي كليب:

ظاهرُ المشهد الانتخابي الرئاسي في لُبنان اليوم يوحي بأنّ ثمةَ انسدادًا سياسيًّا مُحكَمًا أمامَ انتخاب رئيسٍ للبلاد. والظاهرُ والمظاهر في هكذا حالات أمورٌ مُفيدة للعارفين مآلاتِ التعقيدات وكيفيّةِ الحلول، فلا بأسَ أن يسمعوا، صامتين، شجبَ هذا، وغضبَ ذاك، وترنُّحَ ثالثٍ بين المدح والقدح، تلميحًا مرارًا، وتصريحًا لمامًا.

أمّا بواطنُ الأمور فهي حتمًا في مكانٍ آخر، ولا علاقةَ لها بكلّ الضجيج والزوابع في فناجين مجلس النوّاب وغيره. وليسَ أكثرَ دلالةٍ على هذا من أنَّ المُرشَّحَيْن الرئيسيّيَن، أي قائد الجيش العماد جوزف عون وسليمان فرنجيّة، لم يُعلنا حتّى الساعة ترشيحَيهما لإدراكهما وإدراك من يتحمّس لهما ويدعمُهُما علانيّة أو ضمنيًّا، بأنَّ لحظة التسوية لم تنضج بعد. 

بهذا المعنى، يُمكنُ إدراج ما قيل في الأيام الماضية عن بواكير اقتناع حزب الله باحتمال أنْ يكون عون الرئيسَ المُقبل، في سياق جسّ النبض أو التسويق أو الكلام لمجرد الكلام دونَ أيّ سندٍ حقيقيّ من قِبل بعض المَلَكيّين أكثر من الملك. تمامًا كما يُمكن أن يكون ما قيل في الأيام الماضية، في إطار استجلابِ عروضٍ في هذا الوقت الميت أو المُستقطع. ذلك أن أجواء الحزب لم توحِ على الأقل حتّى الآن بتغيير موقفه الذي لم يُعلَن منه الاّ ما قاله أمينه العام السيّد حسن نصر الله عن مواصفات الرئيس المقبل وضرورة أن ” لا يطعن المقاومة” ولا يُباع للأميركيّين وغيرهم.

تفترِضُ بواطن الأمور أنّ الحزبَ يضع نفسَه في موقع صاحب القرار الأول في تسهيل وصول الرئيس أو إعاقة وصوله. وحتى لو كان هذا الاعتقاد قابلاً للجدل، فإن بعض الذين يُنصّبون أنفسَهم ناطقين باسم الحزب يتعاطون مع الأمور على هذا النحو.  وهذا يرتبطُ حتمًا بالاستراتيجيّة الأوسع وليس فقط بالداخل اللُبنانيّ. فشرطُ عدمِ المساس بالسلاح، تصريحًا أو فعلاً، بات مُنطَلَقًا لأيّ تسوية مُقبلة ولن يتنازل عنه الحزب بأي ثمن. يتبعُه شرطٌ آخر يتعلّق بضرورة الحفاظ على غطاء مسيحيّ جدّي للحزب وهو ما يعني الاحتفاظ بجبران باسيل حليفًا مهما انحرف في الخطاب، وعلى شبكة علاقات متفرّقة ومفيدة في العمق السُنّي.

تفترضُ بواطنُ الأمور أيضًا، أن يكون الحزبُ في موقع المُتفرّج على الزوابع التي يُثيرُها رئيس التيّار الوطني الحرّ من بيروت حتّى قطر مرورًا بباريس، فالحزب في الحالتين يستطيع أن يربح، بحيث يتخلّص من إحراج كبير كلّما كبُرت مشاكل باسيل مع الأطراف اللُبنانية والخارجيّة ويبقيه تحت عباءته من جهة، ولا يُعارض سعيه الضمنيّ للرئاسة لإدراكه باستحالة ذلك من جهة ثانية. ولن يزعجُه الأمر لو أنَّ مُعجزةً أعادت باسيل إلى بازار المُرشّحين.

تفترضُ بواطنُ الأمور ثالثًا، أن تيأس الأطراف الداخليّة المُعارضة للحزب، فتبحث عن حلّ توافقي يرضى عنه هو ويشجّعه، تمامًا كما حصل مثلا مع إعادة انتخاب نبيه برّي رئيسا لمجلس النواب وانتخاب إلياس أبي صعب نائبًا له وسط تشرذم وتردّد وقلّة خبرة نوّاب التغيّير.

أما رابعُ افتراضات بواطن الأمور، فيتعلّق بلحظة ترسيم الحدود البحريّة. فهذا أمرٌ ليس عابرًا حتى ولو تناساه المتنافسون على الوهم، ذلك أنّ ما قبلَه ليس كما بعدَه، وكان من المُنتظر أن تُظهَّر نتائجُه أكثر لولا انسداد أفق التفاوض الإيراني-الأميركي، وتعرقُل الحوار السعودي-الإيراني، وانزلاق الداخل الإيراني الى مأزق التعامل مع متظاهرين لا يبدون قابلين بالتراجع، وعدم ترنّح جو بايدن في مجلسي الشيوخ والنواب الى حد ما، خلافًا لما توقّعه خصومُه من هجومٍ كاسحٍ للجمهوريّين يغيّر موازين القوى في الانتخابات النصفيّة.

الحزبُ أذاً في مرحلة الانتظار، عينُه على الداخل، وعينُه الأخرى على الداخل الإيراني وعقلُه يتفاوض مع الفرنسيين ويصل الى الدوحة ويبعث برسائل طمأنة عديدة لسليمان فرنجيّة. وهو في هذا الوقت، لا يُريد الكشف عن أوراقه، ولا إحراق أيّ ورقة. ولذلك عاجَل رئيس وحدة التنسيق والارتباط في الحزب وفيق صفا جبران باسيل بشيءٍ من اللوم حين أعلنَ سابقًا ترفّعه عن الترشح، وسأله:” لماذا تُخسِّرنا ورقة من الآن”. ولذلك فلا يُكذّب الحزبُ بعض المقرّبين منه، حتى لو غالوا في تقدير التقارب مع قائد الجيش، ولا يؤكد أو ينفي أي معلومة. وثمة قناعة عنده، على الأرجح، بأنّه سيربح النزال عاجلاً أم آجلاً، أو على الأقل لن يخسره.

صحيح أن سليمان فرنجيّة يبقى الخِيار الأكثر ترجيحا بالنسبة للحزب، لكن الصحيح أيضًا أنّ لا أحد يستطيع رصد مآلات وتطوّرات الأمور محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا (من لبنان وسوريا والعراق، مرورًا بالداخل الإيراني والمحيط، وصولاً الى أوكرانيا).  ولذلك فجوزف عون يبقى أيضًا خيارًا حتّى ولو أنَّ قياديًّا سياسيًّا بارزًا من الذين يتشاورون دائما مع نبيه برّي، أبلغ السفارة الأميركية والسعودية رفضه القاطع هذا الخيار قبل أيام قليلة.

من المُهمّ هُنا الإشارة إلى أنَّ قائد الجيش الذي أبدى انزعاجًا غير مرّة من الطبقة السياسيّة، وحذّرها مرارًا، ولم يتجاوب مع كلّ الضغوط التي مورست عليه في عدّد من التعيينات ويلقى دعمًا أميركيًّا واضحًا ( رغم تباينات سابقة وغضب عابر في بعض المرّات من السفيرة الأميركية) ، لم يخرق طيلةَ ولايته، أيَّ خطّ أحمر مع حزب الله في ما يتعلّق بسلاحه أو بفكرته للمقاومة والمعادلة الثلاثية ( شعب وجيش ومقاومة)، التي وصفها سلفه الرئيس ميشال سليمان ب ” المُعدلة الخشبية” فنالَ تُهمة ” الطعن في الظهر” من نصرالله.  

ولكي نختم افتراضات بواطن الأمور، يجب أنْ نعلم بأنَّ رئاسة الجمهوريّة ليست مُنعزلة هذه المرّة عن سلّة كاملة من الأمور، تتعلّق برئيس الحكومة المقبلة وشكلها وبرنامجها، وعددٍ من التعيينات والثوابت والمتغيّرات، وهذا ما يجري حوله النقاش في الغرف الحقيقية من لبنان الى باريس وقطر والسعودية والولايات المتحدة، وربما سورية الى حدٍ ما، وليس في مجلس النوّاب… فهذا الأخير، يصلُح حاليًّا لتمرير الوقت بأقلَّ مشاكل مُمكنة بانتظار الصفقة واتّضاح بواطن الأمور.

هذا ما ينبغي أن يعرفَه تماما بطريرك الموارنة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وريث البطاركة أصحاب القرارات المصيريّة، خصوصًا تلك التي ساهمت باستقلال لُبنان، ذلك أنّ عظةَ الأحد وما تتضمّنه من شجب وتقرّيع ولوم كلّ اسبوع، ما عادت تنفع سوى بتأكيد مقولة ضمنيّة عند الحزب مفادُها: ” أنتم تقولون ما تشاؤون ونحن نفعل ما نشاء”.

لعلَّ من الأهم في اللحظة اللُبنانية الحرجة والمصيريّة هذه، أن تُفتح يوميًا أبواب البطريركية المعنيّة بالمنصب المسيحيّ الأول في البلاد، لاجتماعات متواصلة وجمع المتخاصمين المسيحيين أولاً ثم توسيع الإطار الى المجال الوطني مع كلّ الطوائف والشروع في نقاش مُستفيض حول ماذا نُريد ليس فقط من الرئيس المُقبل، بل من النظام برمّته.

قد تكون مُشكلة البلاد هي  في ” سلاح الحزب ” كما قال البطريرك أكثر من مرة وقد تكون في  ” الاحتلال الإيراني” الذي يحلو للدكتور فارس سعيد توصيفه كلَّ يوم في تغريدات تذهب مع الريح، هذه آراء ينقسم أيضًا اللُبنانيون بشأنها بين مناهض ومدافع عنها، لكن المشكلة الأكبر تكمن في اختصام القيادات المسيحيّة، وعلى جري عادتِها منذ الاستقلال، كُلّما حلّت مواسمُ الانتخابات. وما لم يتَّفِق المسيحيّون الموارنة على شخص الرئيس وصفاته ومشروعه، ويناقشون الأمر بعمق مع الشركاء الآخرين في الوطن، سيُصبح الموارنةُ فعلاً طائفةً في طور الانقراض، أو طائفةً لها وظيفةٌ واحدة، هي تسهيل عملِ الطوائف الأخرى فحسب.

قال لي مرّة العميد ريمون إده في حوار أجريته معه في باريس لصحيفة” السفير: “إن المشكلة الحقيقيّة تكمن في أن قادةَ الموارنة يختصمون كلّما حلَّ موعدُ الانتخابات، فيتركون الآخرين يقرّرون عنهم”…. لعلّه هذه المرة وأكثرَ من أيّ يومٍ آخر، على حقٍّ تمامًا.

يبقى أنّي شخصيًّا لا أؤمن بطوائفية السياسة، وأتمنى أنْ نصلَ إلى يومٍ يُصبح فيه انتماء اللُبنانيّ إلى وطنه ودولته وليس إلى هذه الطائفة وتلك، وأنْ يُصبح الشخصُ المناسب في المكان الُمناسب بغضّ النظر عن طائفته ومذهبه وعرقة ولونه. فلو أنَّ الطائفيّة أصلحت شيئًا في هذا الوطن الجريج لأمكن التفكيرُ بإستمرارها. ولكن…. 

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button