أسرار الجغرافيا في صراع روسيا واوكرانيا

أسرار الجغرافيا في صراع روسيا واوكرانيا
أيمن مرابط – الرباط
“لو كان فلاديمير بوتين يصلي ويدعو الله فعلا، لدعاه أن يبني في الأراضي الأوكرانية كلها جبالا عالية وأن لا تبقى سهولا منبسطة”، بهذه العبارة، افتتح الصحفي الأمريكي الخبير في الجغرافيا السياسية تيم مارشال مقدمة كتابه “سجناء الجغرافيا…عشر خرائط تفسر كل شيء حول العالم”، الصادر في أكتوبر 2015 بنيويورك بالولايات المتحدة، ويُضيف أيضا “إذا كان الله قد بنى الجبال في أوكرانيا، فإن الامتداد الكبير للأرض المسطحة هو الشمال، ولن يكون السهل الأوروبي منطقة مشجعة يمكن من خلالها مهاجمة روسيا بشكل متكرر. كما أن بوتين ليس لديه خيار، يجب أن يحاول على الأقل السيطرة على الأراضي المسطحة إلى الغرب. إن هذا هو الحال مع جميع الدول، كبيرة كانت أم صغيرة. يسجن المشهد زعمائهم، مما يمنحهم خيارات أقل ومساحة أقل للمناورة مما قد تعتقد. كان هذا صحيحًا بالنسبة للإمبراطورية الأثينية، والفرس، والبابليون وما قبلهم. كان هذا صحيحًا بالنسبة لكل قائد يسعى إلى أرضية عالية لحماية القبيلة.”[1]
روسيا.. الخريطة المغلقة
إذا نظرنا في خريطة روسيا وحدودها، فإنها هي الدولة الأكبر مساحة في العالم البالغة أزيد من 17 مليون كلم مربع، والأكبر امتلاكا لخطوط حدودية برية شاسعة مع عدة دول وعلى امتداد قارتين، الأوروبية والآسيوية، لكن التحدي الأخطر الذي تشكله هذه الخريطة الجغرافية على روسيا هو مدى انفتاحها على البحار والمحيطات أو ما يُصطلح عليه ب “المياه الدافئة”[2]، فالمنافذ البحرية بالنسبة لروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ضيقة ولا تسمح لها بالمناورة في الأفق الاستراتيجي بعيد المدى كما تفعل دول أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة.
ونرى أن الأسطول البحري الروسي إلى بحر المتوسط أو حتى المحيط الأطلسي لابد له من المرور عبر البحر الأسود والمرور من مضيقي البوسفور والدردنيل[3] ثم الوصول للمتوسط، ومن الشمال يلزمه العبور عبر بحر البلطيق والمرور من مضيق الأوريسند الفاصل بين الدانمارك والسويد، ثم بحر الشمال فالمحيط الأطلسي، أما في أقصى الشرق في المحيط الهادئ فتبدو الموانئ الروسية خاصة ميناء فلاديفوستوك المطل على بحر اليابان، تبدو كأنها مطوقة من اليابان الحليفة للولايات المتحدة مع انتشار الأخيرة بشكل مكثف في القواعد، مع وجود مشاكل بينها وبين روسيا حول الحق في جزر الكوريل الغنية بالغاز والنفط.
منطقة الدول العازلة..
لكي تسهل على روسيا عملية عبور أساطيلها الحربية دون عوائق أو تهديد، ترى أن دول هذه المناطق لابد أن تكون حليفة لها أو على الأقل لها علاقات ثنائية ممتازة معها ولا تشكل تهديدا على أمنها القومي حتى وإن كانت عضوا في حلف الناتو، لكنها لن تقبل بانضمام الدول المجاورة لها مباشرة إلى هذا الحلف حيث التهديد يصل إلى حده الأقصى في نظر الروس، كما لن تقبل أن تكون دولا قوية لها قرار سيادي مستقل تململ عن الإدارة الروسية.
من هنا، يتضح أن جوهر الصراع الروسي الأوكراني هو جيوسياسي بامتياز، تلعب فيه الجغرافيا دورا حاسما في ميلان كفة القوة إما لصالح روسيا، إن هي تحكمت في الدول المحيطة بها، وإما لصالح الغرب إن هي أي دول الغرب استطاعت الوصول للسهول الشرقية الكبرى من جهتهم عبر تحالفاتها وتكتلاتها الإقليمية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
تُدرك موسكو جيدا أنها مكشوفة أمام أي عدو محتمل، بسبب السهول الكبرى الممتدة غربا من إستونيا شمالا حتى أوكرانيا جنوبا، وقد تضررت تاريخيا من هذا الأمر، منذ ما قبل سنوات الحرب ضد الحملات النابليونية حين كانت تحت نظام القياصرة أي “روسيا القيصرية” إلى الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية حين كانت تُسمى بالاتحاد السوفياتي، واليوم ترى أن حلف “الناتو” يشكل تهديدا لها، وبالتالي فهي تسعى بكل الوسائل لحماية أمنها القومي والحفاظ عليه لأطول فترة ممكنة، عبر ضمان ما يُمكن تسميته ب “دول الجدار العازل” بينها وبين دول الحلف الناتو والحديث هنا عن أوكرانيا وبيلاروسيا.
أي مستقبل لروسيا وأوكرانيا..؟
يرى المفكر الواقعي جون ميرشايمر (John Mearsheimer) أن روسيا قوة عظمى، وبالرغم من أنها منحازة الآن إلى الصين، فمن المحتمل أن تُحوِّل جانب الانحياز مع الوقت وتتحالف مع الولايات المتحدة، لأن قوة الصين المتزايدة، تعتبر أعظم تهديد لروسيا نظرًا لتقاربهما الجغرافي. وإذا ما ذهبت موسكو وواشنطن إلى صياغة علاقات متقاربة، بسبب خوفهما المتبادل من الصين، فسيتم إدماج روسيا على نحو سهل في النظام المحدود الذي تقوده الولايات المتحدة. أما إذا ما استمرت موسكو في الحفاظ على علاقات ودية مع الصين بسبب خوفها من الولايات المتحدة أكثر من خوفها من الصين، فسوف يحدث إدماج روسيا على نحو سهل في النظام المحدود الذي تقوده الصين. ولكن يبقى احتمال آخر يتمثَّل في أن روسيا لن تصطف إلى أحد الطرفين وتبقى على الهامش، وتعمل على الاستفادة من تنافسهما معًا في اكتساب نقاط تعزز من قدراتها التنافسية والتفاوضية معهما معًا، سعيًا نحو استكمال بنيتها القطبية.[4]
أما دولة أوكرانيا، فالنظام الحالي فيها يُبدي رغبة مباشرة في الانضمام لدول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو حتى يستطيع حماية نفسه من روسيا وتنطبق عليها بنود اتفاقية حلف شمال الأطلسي ولعل أهمها البند الخامس منها الذي ينص على أن الاعتداء على أي دولة في الحلف هو بمثابة اعتداء على الدول الأعضاء كافة، بيد أن دول هذا الحلف والاتحاد الأوروبي هي غير قادرة حتى هذه اللحظة على تلبية طلبات النظام الأوكراني، لأنها تُدرك جيدا أن المواجهة ستُصبح مُباشرة مع روسيا مما يُعقد الوضع أكثر ويخلط أوراق المنطقة، ويوسع رقعة الحرب لتُصبح من حرب ثنائية إلى إقليمية ثم عالمية لا أحد يقدر على تحمل تكاليفها الباهظة، لكنه اختار المُواجهة غير المباشرة عبر دعم الجيش الاوكراني بالأسلحة المتطورة وتقديم المعلومات الاستخباراتية له، وبهذا الدعم يطول أمد الحرب.
بعد سنة، ماذا كشفت الأزمة.؟
يرى عدد من الباحثين أن الأزمة الروسية الأوكرانية كشفت عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النظام الحالي، مثل روسيا الاتحادية التي حركت الأحداث وكانت المبادر بالفعل في الكثير من تحولاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب. وفي المقابل، برز دور الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ حيث وجدت في الحرب تهديدًا كبيرًا لمصالحها الاستراتيجية شرق المتوسط، بل وفي مرحلة من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديدًا حقيقيًّا لوجود العديد من الدول والأطراف في المعسكر الغربي، وفي مقدمتها دول أوروبا الشرقية سواء التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي، 1991.
كشفت الأزمة كذلك، أن عنصر الجغرافيا، يلعب دورا حاسما ومحوريا، أولا في تحديد دوافع الحروب والأسباب المباشرة والنوايا سواء كانت معلنة أم غير معلنة، وثانيا في تحديد نتائج أي حرب تقوم بها أي دولة عظمى وحجم الأضرار التي قد تتعرض لها اقتصاديا وعسكريا وأمنيا، وبالتالي فكل دولة في العالم تتحرك وتُناور في حدود الإمكانيات السياسية التي تُوفرها لها الجغرافيا، وهي إما تكون حدودا مفتوحة مُربحة تجنب الدولة الأضرار القاسية، أو تكون مُضرة تُعقد الوضع أكثر ولا تلعب لصالحها، ولذلك فالصراع الروسي الأوكراني يعد من أعقد الصراعات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين.
المراجع
[1] Tim Marshall. Prisoners Of Geography “Ten Maps that explain everything about the world” . Copyright 2015. New York, Page 6.
[2] “لم يكن السبيل إلى عالم المياه الدافئة سهلا بسبب وجود دولتين كبيرتين تعترضان ذلك الطريق، هما الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية العثمانية، ولذلك تعددت الحروب بين روسيا القيصرية وهاتين الإمبراطوريتين خلال القرن الـ19 خصوصا، فقد اشتبكت مع الدولة الفارسية خلال السنوات 1804 و1813 و1826، ودخلت في حرب ضد العثمانيين في الأعوام 1828 و1829 و1853”. انظر: فهمي الهويدي “المياه الدافئة وراء الصراع بين موسكو وأنقرة” موقع الجزيرة. 17/03/2015 رابط المقال https://www.aljazeera.net/opinions/2015/12/7/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D9%81%D8%A6%D8%A9-%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%83%D9%88
[3] يخضع هذين المضيقين لاتفاقية مونترو وهي اتفاقية عقدت في مونترو في 1936 منحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيتين، وتنظم عبور السفن الحربية التابعة للبحرية. وتضمن حرية مرور السفن المدنية في وقت السلم، وتقيد مرور السفن البحرية التي لا تنتمي إلى دول البحر الأسود. وقد كانت شروط الاتفاقية مصدر جدل على مر السنين، وعلى الأخص حول وصول قوات الاتحاد السوفيتي العسكرية إلى البحر الأبيض المتوسط.
[4] John J. Mearsheimer, “Bound To Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order,” International Security, Vol. 43, no. 4 (Spring 2019): 48-49
ReplyForward |