افتتاحيةآخر خبر

إعادة انتاج إسرائيل وفلسطين

سامي كليب

سيُهلّل كثيرون لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وسيصفونه بأنّه “تاريخي” وأنّه سيفتح بابَ السلام العادل والشامل في كلّ المنطقة. وستقامُ احتفالاتُ النصر عند الجميع، وتُلقي الخطابات الحماسيّة من كل المتقاتلين، ثم يأتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الكنيست ليقول إنّ هذا الاتفاق حمى إسرائيل وقضى على الإرهاب وفتح أبواب السلام (أي التطبيع) على مصراعيها.

لا شكّ في أنَّ وقفَ القتال بحدّ ذاته مهمٌّ جدًّا الآن، ومشكورة كل الدول التي جاهدت للتوصّل إليه. فهذا سيوقف، ولو مؤقّتًا، قتل ١٠٠ فلسطيني كلّ يوم، ويسدّ رمق أطفالٍ جاعوا ومرضوا وتيتّموا، ويسمح بدفن الشهداء والصلاة عليهم، ومداواة الجرحى وتخفيف عذاباتهم، واستقبال الشتاء ببعض الأغطية والخيم، كي لا يموت من بقي من أهل غزّة على قيد الحياة، من صقيع الشتاء.

لكن، يجب أن يكون المرء ساذَجًا أو مُغفَّلاً أو قصير الذاكرة، كي يُصدّق بأن وقف القتال، يعني إنهاءَ الحرب، وفتحَ الأبواب لسلامٍ عادل شامل. فبعد خطاب ترامب، واستعادة كلّ الرهائن الإسرائيليين، سيمضي نتنياهو باستكمال خطّته الممنهجة لقتل من بقي من قادة حماس وعناصرِها، تمامًا كما يفعل  وسيفعل ضدّ حزب الله في لُبنان، وسيُبقي على احتلال مناطق من غزّة، ويزيد الخناق.

لا شيء يدعو للتفاؤل الواسع الآن، ذلك أنَّ هذه الحرب، وما تبعها من مجازر فاقت الهولوكوست بشاعة ودمويّة وحقدًا، وما تخلّلها من توسيع رقعة الحرب ضدّ كلّ المحور الذي تقوده إيران، أمورٌ لم تحصل لمجرد رد الفعل على هجوم ” طوفان الأقصى”، بل حصلت في سياق مشروعٍ سياسيّ أمنيّ توراتي غيبيّ اقتصادي وتجاري أوسع بكثير من الحرب وأسبابِها المُباشرة.

لكن بعد مرور عامين من حرب الإبادة، وتدمير معظم غزّة، وقتل وجرح وإعاقة أو تهجير كلّ أهلها، تبيّن بالمقابل أنَّ القوّة، ومهما بلغت من درجات الهمجيّة لا تحلّ مُشكلة. فنتنياهو لم يستطع القضاء على جذوة المقاومة حتّى توقيع الاتفاق، ولم ينجح في إطلاق سرح الرهائن بالقوّة رغم قدرة إسرائيل وحلفائها على مراقبة دبيب النمل، وصورة إسرائيل في الخارج وصلت إلى أدنى مستويات الحضيض، والوضع الداخلي أضطرب حتّى هدَّد بالانقسام، ناهيك عن الهجرة والانهيار الاقتصادي، وحالات الانتحار، ورفض الخدمة وغيرها.

كانت صورة إسرائيل تـتقهقر، بينما فلسطين تحصد المزيد من الدول المؤيدة لقيامها، وحلُّ الدولتين فرض نفسَه كمعادلة دوليّة شاملة، لن تستطيع الولايات المتحدة الأميركية الاستمرار في رفضها طويلاًَ، خصوصًا أنّ تحوّلات كُبرى وقعت حتّى داخل الحزب الديمقراطي الأميركي نفسه، وفي أوساط النخب والمثقّفين والرأي العام على امتداد الدول الغربيّة والإفريقية والآسيوية.

نحن إذًا أمام لحظة مفصليّة في الصراع، تحتاج ضغطًا غربيًّا ودوليًّا كبيرًا على إسرائيل لتعديل نهجها، واقصاء المتطرفين والعنصريّين الذين يهددون وجودها  بقدر ما يهدّدون فلسطين، وتحتاج أيضًا لإعادة انتاج فلسطين جديدة بقيادة جديدة، تستند الى نضال الشعب الأبي، ولكن أيضًا إلى براغماتيّة سياسيّة ودبلوماسيّة تفيد من هذا الزلزال العالمي ضد إسرائيل والمؤيد لقيام دولة فلسطينيّة.

في هذا المخاض العسير، سيكون من واجب الدول العربيّة قبل غيرها، أن توحّد كلمتها، خصوصًا بعد أن طرق الخطر الداهم الكثير من أبوابِها، وأن تفيد من هذه اللحظة الدوليّة النادرة، للدفع نحو إقامة دولة فلسطينيّة سيّدة ومستقلّة، لا إلى ريفيرا اقتصاديّة تُصبح مستعمرة جديدة وتقضي على أحلام شعب لم يكل ولم يمل منذ ٧٧ عامًا، وبقي يقول “لا” للُمحتل حتّى الرمق الأخير.

لن تنتهي الحروب إلا إذا تحقّق ذلك، أي قناعة الغرب بضرورة تغيير كل النهج الإسرائيلي الدموي، وقناعة الفلسطينيين بضرورة انتاج قيادة جديدة وفكرة جديدة لفلسطين الموعودة.  

ما بعد طوفان الأقصى، ليس أبدًا كما قبله.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى