حواديت مسرح خالد جلال: عبقرية نقل قضايا الناس بدمعة وابتسامة

سامي كليب :
قبل الدخول إلى ذاك المسرح الصغير والحميم في قلب أوبرا مصر، ستجد رجلاً مُبتسمًا، تلمع عيناه فرحًا ومحبّة تحت نظّارتيه، وتوحي وجنتاه الحمراوان والمنتفختان قليلاً، بطيبةِ أهل الأرض في مصر. يقف في البهو الصغير بين باب الدخول إلى الأوبرا وقاعة المسرح،يُرحّب بالزوّار، ثم يدخل ليساعد في إجلاس الضيوف على المُدرّجات، ويعطي إشارة البدء لثلاثين ممثلاً جالسين على شكل نصف دائرة، مُسّمرين بلا حركة، ينظرون الى الوجوه أمامهم، ثم يصدحون فجأة، بسمفونية أصواتٍ جميلة تُبشّر بالحواديت.
الرجل الذي يفعل كل ذلك ولا تفارق الابتسامة مُحيّاه، هو المخرج الفذ خالد جلال، وهو بحد ذاته قصّةُ نجاح وإبداع قلّ نظيرُها في الوطن العربي، فقد خرج من تقاليد المُخرجين المتُعالين على ممثليهم وجمهورهم، وإنخرط في حياة كلِّ فردٍ مِمّن يصفهم ب ” ابنائي”، ليؤسس ورشاتٍ مسرحيّة تخرَّج منها عددٌ كبير ٌمن نجوم مصر وبعض العرب، وصاروا أسماء لامعةً تنتشر على المسارح أو الشاشات الصغيرة والكبيرة، أو تزيّن مسلسلات شهر رمضان الكريم.
يُشعركُ عمله الجديد الرائع” حواديت” منذ لحظاته الأولى حتى الختام، بحميميّة نادرة، وبفرح عارم رغم لحظاتِه الحزينة أو المؤلمة، بحيث استطاع نجومُه، الذين لا بطل بينهم، بل كلهُّم أبطال، أن يختصروا الكثيرَ من جوانب الحياة المصريّة، بل قُل العربيّة: من علاقات الحُب، إلى الذكوريّة وقهر المرأة وتمرّدها، إلى جسور المحبّة بين البشر، إلى الانسانية الصافية المُجرّدة، بحيث يتحوّل السارق إلى مساعدٍ في ولادة السيدة التي جاء يسرقها، وعاملُ الديليفري الفقير إلى مُساهمٍ في إسعاد فتاتين لم تتذوقا طعم البيتزا إلاّ حين أخطأ العامل بالعنوان، والعفريتُ الخارج من البحر إلى إنسانٍ رقيق عاجزٍ عن تحقيق رغباتِ مَن يطالبُه بإعادة أهله إلى الحياة.
تشعر وأنت جالسٌ أمام المسرح الصغير المُتَّسع لعشرات الحواديت، والذي نجح جلال نجاحًا باهرًا في تحريك شخصياته على الخشبة الضيّقة، بأنّك تستعيد بهجةَ الأطفال حين كانت مسارح خيال الظل تجوب القُرى تروي لهم حكاياتٌ ساحرة.
كلّ حدّوته تختصر تاريخًا طويلاً من العلاقات أو الظواهر الاجتماعيّة، فهذا شابٌ يصرُخ في وجه والده الذي أعدّ له العشاء وينتظر عودته المتأخرة إلى المنزل، يُصبح في دقائق معدوداتٍ زاخرًا بالحُب والندم أمام والده، حين يتلقّى اتصالاً بالخطأ من فتاة صغيرة تعتقده والدَها الذي لا تعرف أنّه متوفٍ منذ فترة طويلة، وترجوه أن يعود إلى المنزل ليلاعبها ويروي لها الحكايات. وهذه عروسٌ جديدة تُخفي عن عريسها أنّها مُصابة بمرض ” البهاق” الجلدي، وحين يهمُّ بطلاقها صارخًا مؤنّبًا، يكتشف أنّه مصاب بالسرطان، فتخفّف عنه عروسه المُصابَ وتُقسم أنّها لن تتركه… أيوجدُ في العالم اختصارٌ عميقٌ وجميلٌ كهذا الاختصار لتضحية المرأة وعمق حبّها للرجل وتفوّقها عليه بالتضحية؟ ثم ما هذا الإبداع في تصوير العلاقات العاطفية، بعد أن تأتي سيدة تشتري مشاعر زوجين، فيصبحان بلا مشاعر لأجل المال، ثم يكتشفان أن لا شيء ينفع في هذه الحياة سوى عمق المشاعر.
شخصياتُ ” الحواديت” متنوّعة شكلاً ومضمونًا، وهي لا تستعيدُ قصص التاريخ والعلاقات الاجتماعية فحسب، بل تدخُل إلى صُلب تعقيدات مُجتمع اليوم، كمثل تلك الثريّة الغبيّة المتعالية التي تُريد أن تختصر الفيلم بشخصها وينصاع لها المُخرج والممثلون، أو تلك الناشطة المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تلتقي بأستاذها المسرحيّ الناقم على تخليّها عن أصالة المسرح للغرق في بهرجة الشُهرة السريعة والتي قد تختفي في أي وقت. أو تلك الزوجة التي يُحرّكها زوجها بخيوط لترويضها، ثم تتمرّد وتنزع الخيوط ويصدح صوت السيدة أم كلثوم :” أعطني حُريّتي، أطلق يديًّ”.
مسرح خالد جلال يُشبه ابتسامتَه الذكيّة، ففي ذروة المأساة الإنسانية على المسرح في إحدى الحواديت، قد يقلب الحدّوته إلى ما ينتزع من أفواه الحضور قهقاتٍ عالية. و ” أبناء” جلال كما يصفهم، أخذوا عنه شغف الإبداع المسرحي، فتراهُم في كلِّ حواديتهم، وحركاتهم، وأصواتهم، وانفعالاتهم، ودموعهم، وابتساماتهم، ترجيعًا لتجربته العميقة في العمل المسرحي وورشات التدريب العريقة التي صارت علامة فارقة في الثقافة المصريّة، ومدرسة تُحتذى على المستوى العربي.
أبدع خالد جلال في تحريك النص وتشديده أو تركه يذهب بالاتجاه العفوي الذي يريد مع الاحتفاظ بالخط الدرامي الاساسي، فخلق علاقة شفافية وصدق وتفاعل قلّ نظيرُها بين الممثلين والجمهور ، ونجح في جعل عروضه القريبة جدًا من قلب الجمهور، لوحات تشكيلية، تجمع بين القدرة الفائقة على أداء الأدوار المُعقّدة، والموسيقى المُكملة لهذا اللوحات الساحرة، والإضاءة والديكور كعناصر دلالية لا مجرد خلفية. وكما في الشكل كذلك في المضمون، فإن جلال تناول بذاك التزاوج الفذ بين الدمعة والابتسامة، قضايا تهم الناس جميعًا أينما كانوا خصوصًا في عالمِنا الثالث مثل : الفقر، والبطالة ، والمرأة، والحب، والسلام، والمحبة والتعليم، الصحة، ووسائل التواصل الاجتماعي ( التي تحوّل الكثير منها الى وسائل السخافة الاجتماعية والتباغض الاجتماعي مع الأسف).
وبقدر ما نجح جلال في المزج بين الدراما الجادة والكوميديا السوداء والمسرح النقدي، فإنَّه بات صانع النجوم في مصر، وأب المسرح الجماهيري بامتياز ، وقد تحوّل الكثير من عروضه الى أيقونات مسرحيّة.
ولو أردنا أن نقارن بين تجربة مسرح جلال والمسارح العالمية، قد نجد خيوطًا رفيعة مع بيتر بروك في البساطة وجعل الممثل محور العرض، ومع أريان منوشكين في التأسيس للورشة المسرحية وجعل العرض جماعيًا بامتياز، ومع بريشت في البعد النقدي الاجتماعي والتوعية والكوميديا التي تدخل في صلب قضايا المجتمع والناس، ومع يريزي غروتوفسكي في لوحات المسرح الفقير، ومع اوغوستو بوال في مسرح المقهورين.
عشنا فعلاً ساعتين من المُتعة والبهجة والعمق، امضيناها مع حواديت خالد جلال وأبطاله المُبدعين ( وبينهم من المغرب والسعودية)، ولفتني أنّه يتمتّع بذاكرة قويّة جدًا بحيث لم يكتف فقط بذكر نحو 50 ممثلاً وعاملاً في هذه الحواديت، بل ذكر أيضا جزءًا كبيرًا من الحضور…
أتمنى أن نرى هذه الحواديت في كل عاصمة عربيّة، لانّها تستحق ذلك بامتياز. وحبذا لو يتم تعميم هذه الورشات المسرحيّة على مستوى الوطن العربي، وتحظى بدعمٍ حقيقيّ لأنها تُعبر عن الكثير ممّا في نفوس البشر وحياتهم، ولا شكّ في أنّها ترفع من مستوى الفن والثقافةوالابداع في وطننا العربي الكبير.