كيف كسرت الصين تفوّق أميركا في الذكاء الاصطناعي

رغيد عودة
فاجعة حلت على بورصة وول ستريت، حققت الصين ما لم تتوقعه الشركات الأمريكيّة في مجال بناء نماذج ذكاء اصطناعيّ أكثر تقدمًا ممّا توفره الشركات الأمريكيّة، انعكس بانخفاض كبير لأسهم شركة “أوبن إيه آي” التي تملك برنامج “شات جي بي تي” المساعد الذكيّ بتقنيّة الذكاء الاصطناعيّ وشركة “إنفيديا” المعروفة بأكبر الشركات في سوق صناعة وتطوير الشرائح الإلكترونيّة.
القلق الأميركي والغربي كبير من هذه الثورة التكنولوجية الصينيّة، ذلك أنَّ مَن يمتلك أكبر قدرة في ريادة الذكاء الاصطناعيّ، سيصبح متفوّقًا على كافة الأصعدة: الرقمية، والعسكرية والحروب والصناعة، وتحليل البيانات الضخمة وغيرها من المجالات الهائلة.
المعروف أنَّ أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونيّة تُصنع من السيليكون عادةً، وتتحكم بتدفق الكهرباء بالأجهزة، وتدخل في صناعة كلّ شيء تقريبًا: الأجهزة الذكية والطائرات والآلات والمعدات المتنوعة والأسلحة. هي المكون الأساسي للحياة الرقميّة، وبحسب فورن بوليسي، فإنَّ 8 شركات أمريكية من أصل 15 شركة في العالم حازت على نسبة 48٪ بالمئة من إيرادات سوق الشرائح الإلكترونيّة في عام 2021، بينما كانت الصين أكبر مستورد بقيمة 300 مليار دولار.
بدأت الخطوات الأولى لمحاولة تقييد التقدّم الصيني في الولاية الرئاسيّة الأولى لدونالد ترامب، حيث شنَّ حربا تجارية عبر فرض قيود لمنع الصين من شراء الشركات المصنعة للرقائق الإلكترونيّة، ومنعها من شراء خبرات ومعدّات صناعتها أيضا التي تحتكرها شركات أمريكية، والتي تمكن الولايات المتحدة الأمريكية في أن تكون متقدمة على بكين في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعيّ، والاستثمارات في سوق إنتاج رقائق الإلكترونيّة يعتبرها الخبراء الاقتصاديون أنه أهم سوق اقتصاديّ في الوقت الحاليّ.
كانت الصين في تلك المرحلة في بواكير انتاجها في هذا المجال من الذكاء الاصطناعي، ولا يكفي انتاجُها لحاجات السوق، ولم تكن لديها القدرة على صناعة الرقائق المعقَدة والاكثر تطورًا ولا القدرة على معالجة البيانات بصورة أوسع وأسرع، مما تسبب في تراجع كبير في أهداف الإنتاج لشركات صينيّة في العديد من القطاعات المتصلة بالتكنولوجيا.
سعت الصين منذ سنوات إلى كسر الاحتكار والقيود المتزايدة من الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة بايدن بغية تطوير قدراتها لبناء ذكاء اصطناعي، وساد اعتقاد لدى العديد من خبراء والرؤساء التنفيذيين لدى الشركات الأميركية في عام 2023 بأنَّ الولايات المتحدة الأمريكيّة ستبقى متفوقة على الصين بسنة ونصف في تطوير قدرات الذكاء الاصطناعيّ، لكن في 20 يناير/كانون الثاني من السنة الجاريّة، وقعت المفاجأة، أعلنت شركة صينة نموذجَ ذكاء اصطناعيّ للمحادثات باسم “ديب سيك” يتفوق في بعض إمكانياته على نماذج الذكاء الاصطناعيّ الأمريكيّة وعلى رأسها “شات جي بي تي”. آثار الأمر صدمة لدى خبراء سوق الرقائق الإلكترونيّة الغربيّة، حيث يحتاج نموذج “ديب سيك” الصيني إلى أقل من عُشر حجم تقنيات وتكلفة النماذج بالمقارنة مع “شات جي بي تي” مع الحصول على نتائج أفضل. وتبعها نموذج “كوين” الذي أطلقته شركة علي بابا الصينيّة، والذي اعتُبر أكثر تقدما وتطورا من نموذج “ديب سيك” كاسر القيود أولًا.
تسبّبت تلك المفاجأة بمحو تريليون دولار من أرباح أسهم شركات التكنولوجيا الأوروبيّة والأمريكيّة في البورصة، بينها حوالي نصف تريليون لشركة “إنفيديا” المعروفة بأكبر الشركات في سوق صناعة وتطوير الشرائح الإلكترونيّة، وهي أكبر خسارة للشركة في تاريخ البورصة. مما جعل صحيفة نيويورك تايمز تصف الحدث بحمام دم غير مسبوق.
صار واضحا أن ديب سيك هرب من سجن القيود الأمريكي، حيث يستخدم شرائح معقدة أكثر تطورا قادرة على معالجة البيانات بأكثر من 800 مرة من المعالجة العادية، وكما يستطيع معالجة 70 مليون تكرار للبيانات بأقل من دقيقتين باستخدام وحدة فقط من شرائح معالجة البيانات. وذكر أحد مؤسسي شركات صناعة الرقائق الالكترونية لموقع “زد نت” المتخصص بالتكنولوجيا في إشارة إلى الرقائق المباعة للذكاء الاصطناعيّ من قبل أكبر الشركات الأمريكيّة “إنتل وانفيديا”، “لا يمكن تحقيق هذه السرعة بأي عدد من وحدات معالجة الرسوميات”.
أصبح واضحا أن الذكاء الاصطناعيّ الصينيّ صار وبأقل موارد قادرًا على التفوق رغم القيود الأمريكيّة والغربيّة. وبالتالي فمع خفض تكلفة الحوسبة، تصبح السوق أكبر وأكبر وأكبر، مما تسبب بحالات هستيريّة في شركات العديد من القطاعات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الغربية.
ففي مجالات تحليل البيانات الضخمة، صار من يمتلك إدارة تقنيات الذكاء الاصطناعيّ أكثر تفوقًا في الكثير من المجالات الاستراتيجية العالمية الكُبرى، وبينها مثلا: إدارة جيوش واساطيل الطائرات والمسيرات والسفن والدبابات والروبوتات، وهو سيصبح بالتالي قادرًا على الانتصار في الحرب بسرعة أكبر وخسائر أقل تتماشى مع الحروب السريعة باستباق الخصم الذي يمتلك معدات تكنولوجيّة أقل وقدرات تحليليّة ضعيفة. وصار ايضًا قادرًا على معالجة البيانات الضخمة الاقتصاديّة وسيقدم نتائج أبحاث وارشادات ويقود إدارة محطات طاقة ومصانع عملاقة بذكاء لا يتصوره أحد، متفوقا حتى خصومه الآخرين من نماذج الذكاء الاصطناعيّ.
تعد اسرائيل أكثر من كشف صراحة عن استخدام حاسوب الذكاء الاصطناعيّ لإدارة كل العمليات الجويّة والرصد في حروبها خلال العامين الماضيين، كما أعلنت اسرائيل سابقًا عن بدء تصنيع اسطول من دبابات الجيل الخامس يقودها الذكاء الاصطناعيّ بدل أفرادٍ من البشر. بينما تحذر منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة من مخاطر وعواقب كارثيّة لتفرد الذكاء الاصطناعيّ في اتخاذ القرارات في الحروب.
ومن أبرز المهتمين بالحصول على مساعدة لإدارة قطاعات الدولة بوساطة الذكاء الاصطناعي في الخليج العربي هي المملكة العربية السعودية، حيث لم تجد احتياجاتها من شركات التكنولوجيا الغربيّة جراء القيود الأمريكيّة، فبدأت تميل إلى الصين من أجل تحقيق مساعيها مما يجعلها تخرج عن السيطرة الأمريكيّة في هذا المجال.
لعلّ هذا بالضبط ما جعل الرئيس ترامب يولي هذا القطاع في بداية ولايته الثانية الاهتمام الأكبر وذلك عبر تخصيص 500 مليار دولار لإنشاء بنى تحتيّة للذكاء الاصطناعيّ، وتتحدث تقارير إعلاميّة حديثة في الصحف الأميركيّة عن توجه لتشديد القيود على الصين لمنعها من الحصول على رقائق إلكترونيّة متقدمة رغم ما فشل من قيودٍ سابقة.
خلاصة القول، إنَّ الصين نجحت في كسر الاحتكار والقيود الغربية المتزايدة مع مرور السنوات، وعملت على بناء قطاعات تكنولوجية مع الشركات الصينية الكبرى والناشئة، وها هي تتفوق على كل الشركات الغربية، فيصحو تنّين الذكاء الاصطناعي من سُباتِه مُحدثًا المفاجأة تلو الأخرى لمستقبل لا يعرف غير الله كيف سيكون.