أدونيس: لا أسف على سقوط النظام، لكني ضد تسييس الدين
مقابلة أجرتها مجلّة Le Point (النّقطة) الفرنسيّة، مع أدونيس.
ترجمتها عن الفرنسيّة : مرح إبراهيم
كيفَ تتعايشُ مع التقلّبات الأخيرةِ في وطنكَ الأمّ، سورية؟
لستُ متأسّفًا على سقوطِ النّظام أبدًا. غادرتُ سورية عامَ 1956 معارِضاً للنظام، ولم يتغيّر موقفي منذئذ. لا يكمنُ السّؤال في تغيير النّظام بقدرِ ما يكمنُ في تغيير المجتمع: أيّ مجتمعٍ نريد؟ ما لم نّبنِ مجتمعًا مدنيًّا علمانيًا، يحترمُ حقوقَ النساءِ والرّجال، وحريّاتِهم وآمالهم، حيث يصبح الدّينُ مسألةًّ فرديةً، فلن نستفيقَ أبداً من ركودنا الحاليّ. ولكنني على يقينٍ بأنّ سورية سوفَ تنجحُ ذاتَ يومٍ في تأسيس مجتمعٍ علمانيٍّ يحترمُ الحريّاتِ كافّةً.
هل يتيحُ لك هذا الرّكنُ الذي نتواجدُ فيه الآن، العملَ بمنأى عن الفوضى التي تعمّ العالم ؟
أحاولُ ها هُنا أن أخلقَ زمنًا داخلَ الزمن. ذلكَ أنّ هذا المكانَ يحتضنُ كلّ ما يخصني حصرًا. لديّ دومًا كثيرٌ من المخططات الهادفة إلى إبداع شيءٍ جديد. والرائعُ في عالم الفنّ هو أننا نشعرُ دائمًا أننا في البَدْء، إذ لا شيء عُبّرَ عنهُ تعبيرًا نهائيًّا. ومن ثَمّ الفرقُ بين الدّين والأيديولوجية والإبداع الفني. الدّين إجابةٌ ولا يملكُ المزيد. أمّا الفنُّ فهو سؤال. وعندما يدّعي الفن امتلاكَ الإجابة، يصبحُ أيديولوجيّةً، ودينًا آخر.
من كانَ أدونيس في بيروت في ستينيات القرنِ الماضي، حينَ ظهرت هذه المجموعةُ، التي أُعيدت ترجمتُها الآن، وهي كتابك الرابع؟
كنتُ – مع صديقي يوسف الخال – أحدَ مؤسّسي أكبر مجلّةٍ شعريّةٍ، شِعر، التي كان لها دورٌ حاسمٌ في مجال الشعر العربيّ. نشرنا أعمال الشعراء الفرنسيين العظماء كلّهم تقريبًا باللغة العربيّة. دُعيتُ إلى فرنسا حيث التقيتُ وعرفتُ Alain Bosquet، وYves Bonnefoy ،Pierre Jean Jouve، وHenri Michaux. كما التقيت بِـ Tristan Tzara، والشّاعر الذي أحبّه جدًّا، Jacques Prévert الذي قدّمَ لي رسمةً خاصّة. في ما يتعلّق بالشّعر الفرنسيّ، أعتقدُ أن ما يشكّلُ جوهرَه حقًا ليس فرنسيًّا، بالمعنى التقليديّ للكلمة، بل هو مسكونٌ بالخارج عن الحضارة الفرنسية، بشعوبٍ كشعوب الشرق. يبدو الشّعر المناهضُ لأسلوب مالارميه، الحركةَ الأكثرَ أهميّة. انظروا إلى رامبو، الأشمل بكثير، والأكثر انفتاحًا، بعيدًا عن التصنيفات.
في هذه المجموعة، تتقاطعُ التيّارات: السرياليّة والصوفيّة. ألستَ متصوّفًا بعض الشيء؟
ربّما. ولكن دون دينٍ أو عقيدة! وفي أوج الوجد، يشعرُ الإنسانُ أنَّهُ لم يعد أسيرَ فرديّته. يذوبُ في العالم ككلّ: حاولتُ أن أخلقَ تناغمًا بين الصوفيّة والسّريالية. كانت السّرياليّة تبحثُ عن نقطة التقاء مع اللانهائي، تمامًا كما يبحثُ عنها التصوف، لكنَّ الأمرَ كان منهجًا في منظورِ السرياليّة. في الشّعر، كما في الحبّ، ليس ثمّةَ حدود. كما الهواءُ، كما الشّمسُ: فضاءٌ مفتوح ٌإلى ما لانهاية.
المنفى، الوطن («وطن الهشاشة» كما كتبت). ماذا تعني هذه المصطلحاتُ في نظرك ؟
المنفى ممكنٌ في صميمِ المكانِ نفسه، كما في داخل الكائنِ نفسه. وهوَ أيضًا ثقافة. إنّما الوطنُ نقطةُ انطلاق، “تجذّرٌـ انفتاحٌ”. أنا متجذّر، ولكن كشجرة مُطلَّة على الاتجاهات كلّها. المكانُ جزء من الإنسانِ، لا العكس.
تبقى المرأة عنصرًا جوهريًّا في أعمالك، وهي موضوع مقالتك القادمة. كيف تنظر إلى عصرِنا؟ حيثُ تثارُ أسئلة حول الجنسين والحجاب وما إلى ذلك؟
المرأةُ والرجلُ وحدةٌ لا تتجزأ. لا يمكنُ للرّجلِ أن يكونَ حرّاً مادامت المرأة خاضعةً. ثمّةَ اختلافات بين الرّجل والمرأة، لكن هذه الاختلافات ليست امتيازًاً بأي حال من الأحوال. قد تكون هذه الاختلافات موجودةً بين رجلٍ ورجلٍ آخر. فالقرآن، كما الإنجيل، يعطي الأولويّة للرّجل، لكن هذا التصوّرَ يشوّه الوجود نفسه. إذًا الدّين هو مصدرُ المُشكلة، وأنا لستُ فقط ضدّ الدين، بل ضدّ التوحيد قطعًا، لاسيّما في ما يتعلّق بالرؤية النِّسْويّة. أعتقدُ أن التّوحيدَ كان في بدءِ انحطاط الإنسان. إذا شرّحنا الحبَّ والخلق، فماذا يبقى؟ إنّها النتيجة “الروحية” الناجمة عن الرؤية التوحيديّة التي هي في الأصل رؤية إنجيليّة.. وأنا ضد ذلك رسميًّا.
وكيفَ يمكن أن نتخلص من هذه الرؤية التي شوّهت الإنسانَ في نظرك؟
هذا هو دورُ الشّعر والحبّ. وفي العمق، كلاهما في أزمة حاليًا، تغمرهما الهمجيّة.
ما بوسع الأدب أن يفعل حين لا يملكُ أن يفعلَ شيئًا؟ يتساءل Patrick Chamoiseau في كتابه القادم عن الأدب في زمن الحرب. أسألكَ السؤالَ نفسَه عن الشّعر، ماذا تجيب؟
الكتابة، والشعرعلى وجه الخصوص، لا يمكنها أن تغيّرَ شيئًا. لكنَّ في وُسعها ومن واجبها أن تُسمّي الأشياء بأسمائها. فالمطلوبُ من القصيدةِ أن تُسلِّط الضوء على الظواهر، لا أن تُغيِّرها.
ما الذي يبدو لكَ جديرًا بأن يُسلَّط عليهِ الضّوءُ اليوم؟ بيروت، التي كتبتَ عنها في شهر آذار/مارس عام 1962، في مجموعتك؟
بيروت ليست مجرّدَ مدينةٍ، إنّها رمز. بوتقة تاريخيّة للحضاراتِ والشعوبِ والأديان. المسألةُ الأهم اليوم تكمن في إرساء العلمانيّة. عاشت بيروت، وهي لا تزال تعيش، وسوف تبقى في دوّامةٍ، ما لم تقم هذه العلمانية على الفصل بين الدّين والمجتمع. الدّين تجربةٌ شخصيّةٌ وعلاقةٌ فردية مباشرة بين الإنسان وربِّه، ولا ينبغي أن يدخلَ في مؤسّساتِ المجتمع والدّولة.
ماذا عن الشّرق الأوسط؟
والحالُ في الشّرق الأوسط تثبت ذلك، تسييس الدّين يعني تدميرَ المجتمع. وأنا لا أتحدّث عن الإسلام فقط، بل عن المسيحيّة واليهودية أيضًا. المشكلة هي دوماً الدينً. لا يتعلق الأمر بالأرض أو بالطبيعة أو بالإنسان. وقد أدركت السياسة الغربيةُ هذا الأمر، إذ استخدمت الناسَ وتلاعبت بالشّعوبِ حتى الآن. لقد بنى الغرب حياتَه واقتصادَه على الآخر. لا يستطيع أن يحرّرَ من استعمرهم بنفسه. وما يحدث اليوم بين إسرائيل وفلسطين، هو الشيء ذاته. لقد حرّرَ الغربُ الشرقَ الأوسط من العثمانيين، لكنّه فعل ذلك لكي يحلّ محل تركيا العثمانية وليس محبّةً بالعرب والمسلمين، لا بل على العكس، بغاية حكمهم. فالاستعمار جزءٌ من الحضارة الغربيّة، والتحرّرُ منه لن يكون إلّا نتيجة صراعٍ طويلِ الأمد.
هل الشرق ملعونٌ، كما يتساءل بعضهم؟
إذا كان الشرقُ ملعونًا، فالغرب ملعون أكثر. إنّ الغرب الحاليّ يخون ما قدّمه لنا، وما علّمنا إيّاه: الحضارة، وحقوق الإنسان، والثّورة الفرنسية، وما إلى ذلك. ما يقدّمه لنا الآن ليس إكسيرَ الحياة، بل هو سمٌّ. لأنّهُ لم يَسْعَ مثلًا إلى إنشاء مجتمع علمانيّ في الشّرق الأوسط، على غرارِ المجتمعات في الغرب. لقد خان الغربُ شرقَه، وبدلاً من أن يُشاركَه في سيرورة الحداثة، استعمرَه. لكن علينا أن نعترف بأنّنا، نحنُ الشرقيين، نتحمّل أيضاً جزءاً كبيرًا من المسؤوليّة.
لماذا لم توقّع قصائدَك باسمك الحقيقيّ؟
ما معنى الاسم الحقيقيّ؟ من يملكُ اسمًا حقيقيًّا؟ من؟ بدءا من الله. على المرء أن يخرجَ من اسمه. يقولها كبار المُتصوِّفين دائمًا. الإنسان، ما بداخلنا، أوسعُ من الاسمِ وأعظمُ. الاسم لا يستنفدُ المسمّى.