ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي)
ترجمة : مرح إبراهيم
فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا، وإن لم يكن ساحقًا، ليصبحّ “الرئيس المنتخب” الذي سيتولّى قيادة القوة العالمية الأولى في العشرين من كانون الثّاني/ يناير 2025، لمدّة أربع سنوات. يحملُ الشعب الفرنسي نظرةً سلبية لدونالد ترامب، بنسبةٍ تناهزُ 80 بالمئة – وأنا منها – وهذا ما يفسّر غالبًا عدم استباق مجتمعنا لهذا السيناريو، الذي كان احتمالًا مرجّحًا، وإن لم يكن مرغوبًا.
في الحقيقة، كانت تحليلاتُ عواقبِ هذه الانتخابات ضعيفةً، باستثناء خطر إشعال دونالد ترامب حربًا أهليةً في حال اعتراضه على النتيجة. الآن، باتَ من الضروريّ، أكثر من أي وقت مضى، أن ننظر في العواقب المترتبة على الانتخابات الأميركية هذه.
من ارتياح نتنياهو إلى التّخلي عن الفلسطينيين
أمّا في الشرق الأوسط، فقد سارعَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتعبيرِ عن سعادته بـ«العودة التاريخية» لأفضلِ حليف له إلى سدّة الحكم، إذ كان يخشى بالطّبع كامالا هاريس و” قلقَها على الشعب الفلسطيني“. كما بذل نتنياهو قصارى جهدهِ لتأزيم إدارة بايدن في ما يتعلق بالحرب الطّاحنة التي يشنها على سبع جبهات، وكانَ إسناد دور وقف إطلاق النار في المنطقة إلى الرئيس الأمريكي السابق الجديد، مرفوضًا.
يشعرُ نتنياهو الآن بحرية مطلقة لترويع المنطقة برمّتها، بحجّة التعرّضلهجوم إرهابي في السّابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، رغم مسؤوليته الجزئية فيه، إذ لم يتمكّن من تجنّبه. تتجسّدُ ممارساتهُ هذه في حصار مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، الذي يُهاجَمُ للمرة الثالثة خلال عام، حيثُ وصلَ الأمرُ بنتنياهو إلى حصارهِ التامّ وقطع المساعدات الإنسانية عنه.
هدّدت الولايات المتّحدةُ –بعد فوات الأوان– بتقليص إمداداتها من الأسلحة، ما لم يرفع نتنياهو هذا الحصار “اللاإنساني” في غضون 30 يومًا، وباتَ الردّ معروفًا الآن، “لاحقًا، عندما ينتهي كل شيء“، أي بعبارةٍ أخرى، “لا يعنينا ذلك“.
يستطيع نتنياهو الآن ضربَ موقف إدارة بايدن بعرض الحائط، إذ لم تعد قادرةً على اتخاذ أي قرارٍ سيُطعن بعد بضعة أسابيع. علينا أن نعترف،للأسف، أن رئاسة بايدن، اتّسمت عن جدارةٍ بالتردّد حيالَ هذه الصراعات، وقد فاتَ الأوان للتصرّف الآن.
أمّا عن جباليا، فكانَ من الأفضل فرض مهلةِ ثلاث أيام على نتنياهو، بدلًا من ثلاثينَ يومًا، كي يبدو الإنذار جديًّا. ولا يزال ما لا يقل عن 70 ألف فلسطيني محاصرين في هذا المخيم، يموتون تحتَ القصف والتجويعِ والدّمار. ليست إلّا جريمة حربٍ أخرى ضدّ غزّة، حيث أشارت إحصاءاتالأمم المتحدة إلى أنّ 70% من ضحايا القصف الإسرائيلي نساءٌ وأطفالٌ، لا بدّ أنهم إرهابيّون مستقبليّون لحركة حماس.
إقالة وزير الدفاع الإسرائيلي
يشعرُ نتنياهو بقدر أكبر من الحرية في التصرف والكذب، بعدَ أن أقال وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي تجرأ أن يصرّح بضرورة إنهاء هذه الحرب، مردّدًا منذ الصيف الماضي أن الوقت قد حان لوضع حد لهذه العملية التي فُرّغت من أهدافها العسكريّة، وأنّ إنقاذ الرهائن الأحياء لا يزال ممكنًا (يقدّرُعددهم اليوم بأقلّ من ثلاثين).
كان وزير الدفاع الإسرائيلي عازمًا، لاسيّما وأنه كانَ يحظى بثقة نظيرهالأميركي، كما أنّه ساهم في مشروع وقف إطلاق النار الذي قبلته جميع الأطراف المتحاربة في منتصف أيلول/سبتمبر، بما في ذلك حركة حماس وحزب الله. لكنّ نتنياهو تعمّدَ إسقاطه بإطلاقه عملية “سهام الشمال” ضد لبنان.
اكتشفَ الإسرائيليون أن نتنياهو قد كذب مرّةً أخرى، حينما سرًبَ معلومات كاذبة حول رفض حماس المزعوم لوقف القتال، إذ لم يكن ورادًا أن ينهي هذه الحربَ، ليخاطرَ بخسارة السلطة والمثول أمام المحكمة، للتحقيق : في أصل هذه الكارثة (إمكانيّة حصول هجوم السابع من أكتوبر الإرهابيّ ؟)، سير العمليّات (لماذا هذا الحجم الهائل من الأضرار الجانبيّة؟) وقبل كل شيء، هدفهُ الفعليّ من هذه الحرب.
لا حدود لنتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل
يترأسُ نتنياهو الآن، مع اليمين المتطرّف، مجتمعًا مصدومًا من الحرب، ويتصوّرُ أنّه قادرٌ الآن على بناء “إسرائيل كبرى” ،على حساب الفلسطينيين حتمًا.
أمرَ نتنياهو الجيش الإسرائيلي بالانتهاء من تدمير شمال غزة، لتحويل هذه المنطقة إلى منطقة مهجورة بلا سيادة (No man’s land)، بحيثُ لا يصعب استعمارها لاحقًا، إذ لن يتبقى منها شيء، وليس دونالد ترامب من سيردعه.
أما الضفّة الغربية فأصبحَ مصيرُها شبه واضح، بعدَ أن حوّل نتنياهو إليهاالقوات الخاصة بمراقبة غزة، بغيةَ تعزيز استعمارها.
لن يبقى أمام الفلسطينيين من خيار سوى مغادرة هذه الأراضي إذا أرادوا العيش بسلام، بدلاً من البقاء وسط الأنقاض. ومع عودة دونالد ترامب، فقدوا أيّ أملٍ في العيش بسلام إلى جانب الإسرائيليين، وأصبحوا بدورهم محكومين بالهجرة الجماعية، وربما بالثأرِ الأبديّ من أطفال إسرائيل.
سوف يفرضُ ترامب على نتنياهو شرطًا واحدًا، وهو “إنهاء المهمّة” قبل تنصيبه في نهاية كانون الثاني/يناير، إذ أن علامة دونالد ترامب تتمثّلُباعتباره الحربَ “صفقةً سيئة“، يجب إنهاؤها عاجلًا، بغض النظر عن العواقب.
هل إيران أمامَ تهديدٍ أكبر؟
استطاعَ بايدن، في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن يفرض على نتنتياهو ردًّا محدودًا ضد إيران، لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي يتمتّعُ الآن بهامشِ حريّةٍ أكبر لاكتساحِ “نظام الملالي“.
إن كانَ يسعى إلى ذلك، فعليه التحرّك قبل تنصيب دونالد ترامب، إذ لن يحبّذَ الرئيسُ المنتخب اندلاعَ حرب جديدة بعد تولّيه الرئاسة. ومن غير المرجّح أن يسمحَ بايدن، رغم تحييدهِ خلالَ هذه الفترةِ الانتقاليّة، لرئيس الوزراء الإسرائيلي بشن هجومٍ واسع على إيران، الأمرُ الذي لا يمكنُ تحقيقهُإلا بوسائل أمريكية.
“فترة سيئة” للمقاومة الأوكرانية
أدركَ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، منذ فشل الهجوم المضاد الأوكراني في أكتوبر 2023، أنه لم يعد بوسعه طرد القوات الروسية بالكامل من أوكرانيا، وأنه سوف يضطر، عاجلًا أم آجلًا، إلى التفاوض. لكنه كان يأمل بأن يمتلكَ بعض الأوراقِ للوقوف في وجه سيد الكرملين.
أمّا دونالد ترامب، الذي يعتبرُ الحربَ “صفقةً خاسرة”، ولا ينوي مواجهة فلاديمير بوتين ــ وهوَ يكنّ لهُ التقديرَ، لا بل الإعجابَ أيضًا ــ فسوفَ يفرضُنهاية الحرب، بسرعة تفوقُ توقّعَ الرئيس الأوكراني.
اتفاق “سلام” مسبق بين ترامب وبوتين
أعلنَ دونالد ترامب أنه سوف يتحدث قريبًا مع بوتين، لكنّه فعلَ منذ فترة طويلة، فالتواصل لم يتوقف بينمها، كما كشف الصحافي بوب وودوارد في الولايات المتحدة.
وربما تمّ التوصّل إلى اتفاقٍ، سيتيحُ لبوتين الاستفادةَ من غزواته العسكرية غير الشرعيّة والوحشية : فهو يضفي الطّابع الرسمي على ضمّ شبه جزيرة القرم وجزء كبير مما يقع خلف خط المواجهة ذات مساحة 1100 كيلومتر مربع. في الواقع، استولى الجيش الروسي على 18% من الأراضي الأوكرانية، كلّفت أضرار جسيمة وخسائرَ فادحة يستحيلُ الاستمرارُ في تكبّدها.
فبعد عامين ونصف العام من حرب مدمّرة، أمامَ مقاومةٍ أوكرانية لافتة، تعرّض الجيش الروسي لأضرار بالغة، لا شكّ في أنّه سوفَ يحتاج إلى وقتٍ طويل،قد يستغرقُ سنوات، ليسترجعَ قواه، ويعودَ أداةَ تهديدٍ وغزوٍ موثوقةٍ لدىبوتين.
إن طيّ هذه الصفحة من الحرب سوف يصبّ في صالح بوتين (الذي سيتمكّنُ من إعلان النصر في عمليته العسكرية الخاصة) وصالح ترامب (الذي سيكون قد أنهى مجزرةً تذكّرُ بحرب الخنادق 1914ـ1918). سوف يكون حلًّا مريحًا للكثيرين، لكنه للأسف لن يسهم في السلام الدائم، بل على العكس، سوف يضاعفُ المخاطرَ على أوكرانيا، لا بل أوروبا الشرقية بالكامل. فقد أدركت الدول الاسكندنافية ودول البلطيق وبولونيا خطورةَالوضع الذي يضعها على خط المواجهة مع روسيا بوتين.
نهاية صفقة الحماية الأميركية والعجز الأوروبي؟
بسوف يتمكّنُ ترامب من فرض “صفقته” بسهولة، لاسيّما وأنّ أوروبا – والاتحاد الأوروبي في المقام الأول – لم تحشد جهودها لتلعبَ دورًا فاعلًا في سبيلِ أمنها الخاص. لا تزال الولايات المتحدة وحدها هي التي تمتلك القدرة على تقديم دعمٍ عسكريّ ضخم وفعّال لأوكرانيا.
يجسد ترامب في نهاية المطاف “صفقةً” أخرى، هي صفقة الولايات المتحدة التي قامت بحماية أوروبا عسكريًا مقابل دورٍ خجولٍ ومفكّك، وقبل كل شيء العجز عن التأثير في العلاقات الدولية، كشكل من أشكال التنازل، بأن تكونَطرفًا غير فاعل في الصراعات. وقد أثبت الاتحاد الأوروبي ذلك ببراعة في كلٍّ من أوكرانيا والشرق الأوسط.
لم يعد السؤال المثارُ ما إذا كان الأوروبيون ينوون البقاء كـ“قطيعٍ من الحيوانات العاشبة وسطَ الضّواري” كما قالها الرئيس ماكرون بلطف، بلأن نسألَ رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، حول قدرتنا الجماعية على بناء أوروبا للدفاع ودفاعٍ لأوروبا.
ها نحنُ نبدأ بموازنة عواقب انتخاب دونالد ترامب، وليسَ بوسعنا أن نصرفَ النّظرَ عن الخرابَ القادم : لم يعد ثمة حدود لنتنياهو في حربه التي لا تحترملا قاعدةَ ولا قانون. سوف يعاني الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى من عواقب الهجوم الإرهابي الذي شنّته حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والذي ضخّ السمّ في مستقبل المنطقة. أمّا أوكرانيا، فلم يعد بإمكانها أن تواصل القتال ضد روسيا بوتين، ولسوف تضطر إلى الدخول في سلامٍ، أقرب منهُ إلى الاستسلام.
أمّا نحن الأوروبيين، فسوف نضطر إلى تحمّلِ جهاتٍ فاعلةٍ، مشبوهةٍ ومستهترة، لتفرضَ علينا واقعها البديل، أو على العكس أن تحثّنا على السعي أخيرًا إلى التحرّرِ من تبعيّة الرضوخ.