
Michel Raimbaud ( ميشال رامبو سفير سابق وكاتب ومؤرّخ)
ترجمة مرح إبراهيم
يفوح شهر تمّوزَ الحالي بضوعِ سريّاليةٍّ مذهلة… العالمُ على حافة الانقلاب… في هذا الغرب الجماعيّ الذي ننتمي إليه، نحلُم بإثارةِ المعركة النهائيّة ضدّ الشرّير بوتين وروسيا الأبديّة ولِمَ لا تكون ضدّ شي جين بينع ومملكة السّماء. يستعدّ حكّامنا، إذ تهدهد مشاعرهم قناعةُ التفوُّق وأسطورةُ الحصانة تحتَ أضواءِ اجتماعات حلف الخير المزعوم واحتفالاتِه، لنهاية العالم، سواءٌ عليهم أَحازوا سلاحًا نوويًّا أم لا، ضاربينَ بعرضِ الحائط تحذيراتِ من جعلوا منهم أعداءَ لهم، وتنبيهَ أهمّ خبرائهم. ثمّة كلمتان أصبحتا، في أيّامنا، من المحرمات، أو أُلقيتا في مزبلة التّاريخ: الدبلوماسيّة والتفاوض.
ها نحنُ، في أرضِ الأنوار، نُبحر وَسْطَ الظّلام، وفي مَوطن حقوق الإنسان، كلُّ شيءٍ يحدثُ وكأن همومَنا تقتصر على الكلاب والقطط. على أيّة حال، ها نحنُ نعودُ إلى زمنٍ يجهلهُ من هم دون الستين عامًا، إلى أرض البهجة التي كانت تمثّلها الجمهورية الرّابعة للأحزاب السياسيّة.
قد يشتعلُ العالمُ أو قد ينفجر، بينما فرنسا لا تعقِد بعدُ من أمَلٍ على غير الألعاب الأولمبية، واليورو (كأس أوروبا)، وفوق كل شيء على ألعاب المُناوشة بين الأحزاب، في أفضل تقاليدنا. وعلى الرغم من ثلاثة مواعيد اقتراع عُرضت على الفرنسيين – اقتراع أوروبيّ واثنَين وطنيَّين – في غضون أسابيع قليلة، فإن الذين أثار فضولَهم إلقاءُ نظرةٍ على وعود المرّشحين، لم يجدوا مرجعًا واحدًا يحدّد مستقبلهم، الآن أكثر من أي وقت مضى: أي المعضلة، لا بينَ السّلام أو الحرب، بل بين الحرب والتفاوض، كما لو كانت الكلمة الأخيرة من الكبائر، وكما لو أنّ تسويغها ( نظراً لِرواج المصطلح)، جريمةُ حرب أو جريمة ضد الإنسانية.
على غرارِ البلدان التي تَعُدّ نفسها “ديموقراطياتٌ كبرى”، تشكّل فرنسا، في السنوات السّاحقة هذه، “مملكة قَلْب المعنى” : إذ يُرمَز لكل مفهومٍ بكلمة تدلُّ على نقيضه، ويقوم كلُّ “نقاش” على نَفيٍ مُسبَّق. فها هو حلف شمال الأطلسي ينبحُ، منذ عَقدَين، على أبواب روسيا، بينما يجدرُ التمهيد لكلّ تدخّل بإدانة فوريّة لعدوان بوتين الذّي لا مسوّغ له. ولا مجالَ للتطرّقِ إلى أحداث السّابع من أكتوبر 2023 في غزة دون تصنيف حماس مجموعةً إرهابية : هذا بِصرف النّظر عمّا يتعرَّض له الفلسطينيون، منذ عام 1948، من اغتصابٍ واستعمارٍ وفصلٍ عُنصريّ، ناهيكَ عن الإبادة الجماعيّة التي تُقترفُ أمام أعيننا.. أم أنّ الإسرائيليّين ليسوا “بشراً مثلنا”؟
هذا هو السّبب الكامن وراء ظهور لغةِ السياسة “خارج السياق”، لا بل غير ملائمة. يا إلهي، كم من الصّعب أن تقاوم توكيدَ الكلمات عندما تُطرح حقائق كاذبة، وتستعين بنبرة مازحة حين لا يكون المقصود سوى الاستخفاف بخطورة نيَّةٍ أو قرار. وعلى الرّغم من ذلك…
ليست الحربُ على حدونا، إلّا إذا اعتقدنا أنّ أوكرانيا بلدُنا وما هي بلدنا. فهي نظرياً على حدود أوروبا، شرطَ نقل هذه الحدود خلسةً نحو الشرق، وهو ما يفعله الناتو منذ ثلاثين عاماً. لا، حربُ أوكرانيا ليست حربَنا…ولا أعتقد أن شعبَ فرنسا الرّقيقة يرغبُ في إرسال أبنائه وأحفاده إلى الجبهة الأوكرانية، إلا إذا حسِبنا أن الجيران أو “عامة الناس” فقط معنيّون بذلك. وسوف يعتقد كثيرون أن “الرئيس ما كان ينبغي أن يقول ذلك”، أيّ ألّا يُعبِّر عن أنّه “سوف يضطّرُ إلى إرسال رجاله” لخوض المعارك في أوكرانيا، حتى لو قصَدَ إظهار اعتياد سيطرته على الحشود، متجاهلاً قواعد الديمقراطية…
وفي النهاية، لسنا في حاجة إلى البحث عن المُحال، ولا إلى مزيدٍ من التدقيق في جانب الشرق أو المشرِق، أليست مملكة “قَلْب المعنى” بين ظهرانينا ؟ ثمّة ثلاث استشاراتٍ انتخابيّة والمعركة نفسها : في حضرة ثلاثة أطراف ومعجزة عظمى من نهاية أسبوعٍ إلى أخرى: ديمقراطيتنا هي ديمقراطية الخاسر الرابِح، فكُلَّما قلّ عدد الأصوات، فُزنا، وكلما زاد الاقتراعُ، زادت خسارتنا. وبعد! أليس السِّحر بِجميل؟