أطفال غزّة يرحلون قبل عيد الأم
أطفال غزّة يرحلون قبل عيد الأم
روزيت الفار -عمّأن
في غزّة؛ يحضر عيد الأم وتغيب مباهجه ومظاهره والاحتفالات. فهو، كبقيّة الأعياد، يأتي مثقلاً بالقلق والرّعب ثم الدّمار والموت الّذي يترك الأمّ دون أولادها والأولاد دون أمّهاتهم، ما يجعل منه مناسبة لنحيب أمٍّ ثكلى و لحزن طفل يتيم. لأمٍّ ثكلى تحمل ابنها الميّت بين ذراعيها إن كان طفلاً أو تضع قبلة على جبينه قبل أن تودّعه شهيداً/ةً إن كان يافعاً أو شابّاً. ثمَّ لطفل حزين أصبح يتيماً يبكي ألماً لفراق أمّه بعيون تائهة لا يعرف ماذا يخبّئ له المستقبل.
لقد أطفأت وحشيّة الاحتلال جميع مباهج فرحة العيد ونور شموعه. فكيف لطفل أن يحتفل دون أمّه أو لأمٍّ دون أبنائها؟
خطف الاحتلال منهم كلّ معاني العيد وأفرغه من محتواه البهيج، فباتت “الأمومة” هناك؛ حالة غير مناسبة للاحتفال والعيد غير مناسب للأمومة.
في مقال عن الأمومة في فلسطين نشرته مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة بأكتوبر 2023، تـمّ تعريف الأمومة بأنّها “حالة خوف وقهر دائمة”. فأن تكوني أمّاً؛ يعني أن تهيّئي نفسك دائماً لخبر الفقدان أو أن تدرّبي قلبك على إمكان الانطفاء المفاجئ والخفقان السّريع. بمعنى أن تعوّدي أبناءَك على احتمال الغياب القسري وأن تحصّني وعيَهم باحتماليّة الموت المفاجئ السّريع والاعتقال المُباغت والإصابة الحرجة وما إلى ذلك من مسبّبات للألم الّتي تعاكس تماماً مسبّبات الأمل المفقود. فبات على عاتق الأم الغزيّة احداث التّوازن في أذهان وقلوب أبنائها بين الألم الّذي يعيشونه؛ وبين الأمل المرجو بالخلاص الّذي عليها، باستمرار، استحضاره كي تجعل الحياة ممكنة قدر المستطاع.
وفي حديثها للصّحفيّين في جنيف بيوم المرأة العالمي، وصفت Tess Ingram المتحدّثة باسم منظمة اليونيسف -وهي المنظّمة العالميّة الّتي يتركّز عملها على القضايا الّتي تمس الطّفولة مثل الصّحّة والتّعليم والتّغذية والحماية من التّشرّد والعنف والاستغلال- الأمومة بفلسطين وبغزّة بالذّات بأنّها “طفل آخر يخرج إلى الجحيم” ورَوَت مشاهداتها عن آلاف الأطفال الّذين يولدون بظروف لا يمكن تصوّرها وعن أمّهات نزفن حتّى الموت وممرّضات اضّطررن لإجراء عمليّات ولادة قيصريّة لستّ (6) نساء حوامل متوفيّات خلال ثمانية أسابيع.
وحسب ما أفادت به المتحدّثة Tess فقد وُلِد 20 ألف طفل منذ بداية الحرب وحتّى تاريخه؛ مشيرة إلى أنَّه يولد كلّ عشر دقائق طفل وسط هذه الحرب. وذكرت بأنّ معدّل وفيّات الأمّهات والأطفال حديثي الولادة غير معروف لكنّه حتماً مرتفع في ظروف انعدام خدمات الرّعاية الطبّيّة الكافية والتّغذية والحماية قبل وأثناء وبعد الولادة. فإذا كانت الأم من المحظوظات في الحصول على فرصة الولادة بما تبقّى من المستشفيات؛ فإنَّ ذلك سيكون لسويعات قليلة لا تتعدّى، في أقصاها، الثّلاث.
تواجه الأمّهات تحدّيات تفوق الخيال وتفقد أرواحهن وأرواح أبنائهن؛ ليس فقط بسبب الأزمة الإنسانيّة، بل بسبب القصف والقنابل والرّصاص، إذ أن هذه الحرب -كما وصفتها الشّهيدة هبة أبو ندى قبل استشهادها- غير نمطيّة الأهداف كسابقاتها من الحروب الّتي شُنّت على غزّة والّتي تمكّن النّاس خلالها من استقراء الأهداف ومدّة انتهاء القصف، فهي بهذه المرّة، مختلفة، لا يوجد بها نمط معيّن وكلّ شيءٍ تحت القصف العشوائي وتحت النّار بصورة دائمة وبنتائج كارثيّة مفجعة.
يوجد الآن في غزّة حوالي نصف مليون إمرأة وفتاة ممّن نزحن أيّام الحرب و540 ألفاً في سنّ الإنجاب، منهن 9000 إمرأة استشهدن حتّى تاريخ 8/3/2024 (يوم المرأة العالمي) من أصل ما أصبح يزيد على 32 ألف شهيد، دون المفقودين تحت الأنقاض، و900 ممّن أصبحن أراملاً ويحملن مسؤوليّة إعالة أُسرهنّ بعد وفاة أزواجهن، و50 ألف امرأة حامل منهن أكثر من 5000 ينتظرن ولادة مهدّدة خلال شهرين. وعليه فإنّ الأمّهات في غزّة يواجهن مخاطر هائلة إذ يعشن في حالة من الخوف الدّائم والصّدمات اليوميّة بظروف اختفاء الخصوصيّة وشحِّ المعدّات الطّبّيّة والمستلزمات الصّحيّة الخاصّة بهن كالفوط الصّحّيّة ونقص المياه، العنصر الأهم لتلبية قضايا الاغتسال والنّظافة الشّخصيّة ونقص مادّة التّخدير والأدوية ومسكّنات الألم وغير ذلك من أدوية حيويّة ضروريّة لحالات الولادة المعقّدة؛ ممّا يرفع نسب الإجهاض أو الولادة لأجنّة ميّتة أو ولادات مبكّرة.
الحرب في غزّة تقهر الأمومة وتنزعها، وذلك عبر شبح الفقدان المتكرّر إمّا بالموت أو الأسر الّذي يجعل الأمّهات تتساءل عن قيمة حياتهن كأمّهات حيث لا يجدن في وجودهن أيَّة قيمة دون أبنائهن ونسمعهن يردّدن: “خذونا معهم”. “ادفنونا معهم.”
عدا عن ذلك، فكابوس فقدان جثامين الأحبّة بات يخيّم على حياة كلّ الأمّهات الفلسطينيّات اللّواتي لجأن لاستخدام الأقلام الجافّة لتوثيق أسماء أطفالهن وجميع المعلومات الخاصّة بهم (إسم الطّفل، عمره، فصيلة دمّه وأين يسكن) على أعضاء جسدهم الضّئيل الّذي يكاد يتّسع لتلك المعلومات، كي يتسنّى التّعرّف عليهم في عمليّة البحث بين الأشلاء عقب القصف والاستشهاد، كما وتقوم الأم هي الأخرى بكتابة المعلومات الخاصّة بها على جسدها خشية فقدها تحت الأنقاض.
هذه الظّاهرة المؤلمة لا تعرفها سوى الأم الغزّيّة.
بعض المشاهدات اليوميّة لأمّهات غزّة.
- صورة لأم تجرّ خلفها طفليها على مقعدين مُخصّصين للأطفال؛ وعلى ظهرها حقائبهما، وتسير لخمس ساعات دون ملل أو كلل، قاطعة مسافة 14 كم من ساحل غزّة إلى المنطقة الوسطى في حرصها على عدم تعريضهما لعناء المشي وتحمله هي بنفسها بدلاً منهما. ويبدو أنّها نجحت في ذلك حيث بدا الولدان وهما يشعران بالرّاحة وكأنّهما ذاهبان في نزهة. وصفت هذه الأم بالأم الخارقة لتظاهرها بالصّمود وقدرة التّحمّل وحرصها على إيجاد مكان آمن لطفليها وسط حرب يشنّها عدو منزوع الرّحمة وصمت دولي مخجل وإنسانيّة تتّصف بالعار.
- صراخ وبكاء وعويل لأمّهات يلدن أطفالهم داخل المراحيض دون أيّة رعاية أو اهتمام. حيث أعلنت معظم المستشفيات توقّفها عن العمل بعد استهدافها وباتت تحمل عنوان “المقابر” لا “المستشفيات”. وسيّارات الإسعاف أصبحت هي الأخرى أهدافاً لطيران الاحتلال.
- توقّف حاضنات الخدّج وحديثي الولادة للقطع المُتعمّد للكهرباء ووفاة العشرات منهم على مرأى أمّهاتهم وعجزهن عن فعل أيّ شيء يمكنه إيقاف ذلك.
والوقت الّذي يحلُّ فيه عيد الأم على نساء غزّة وفلسطين حزيناً، ترحل 300 منهن في العدوان الأخير. ومَن بقين على قيد الحياة، فسيواجهن حتماً تداعيات الحرب والحصار من عناء الفقر والتّشرّد ويعشن حياة اللّاحياة.
“لكن في الجنّة توجد غزّة جديدة بلا حصار تتشكّل الآن”. الشّهيدة هبة أبو ندى
كلّ عام وأمّهاتنا الأحياء بألف خير. رحم الله أمّهاتنا المتوفّيات وأمّهات غزّة الشّهيدات اللّواتي حملن على عاتقهن الدّور النّضالي المُقاوم الّذي تؤدّيه المرأة والأم الفلسطينيّة في الصّمود وكسر الحصار والّذي لا يقلُّ أهمّيّةً بل يتجاوز أحياناً، دورها الوظيفي البيولوجي في الحمل والإنجاب.