هذه أرباح بوتين من حرب غزّة
هذه أرباح بوتين من حرب غزّة
سامي كليب
لعلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أحد أبرز الرابحين الدوليّين من حرب غزّة ليقينه بأنَّ هذه الحرب ستشوّه سمعة أميركا والغرب الأطلسي، وستحرِف الأنظار عن حرب أوكرانيا، وترفع أسعارَ النفط، وتُظهر للعالم أن َّروسيا والصين تُريدان السلام في الشرق الأوسط ولهما علاقات واسعة مع جميع الأطراف، بينما الخصوم يُريدون اشعال الحروب…
لذلك نجد أنّه في أول تصريح له بعد ثلاثة أيام على اندلاع الحرب، سارع إلى تحميل الإدارة الأميركية الحاليّة مسؤولية ما وصفها لاحقًا بالكارثة الكُبرى، وقال ” أعتقد أنَّ كثيرين سيتّفقون معي على أنَّ هذا مثالٌ واضح على السياسة الفاشلة التي تنتهجها الولايات المتَّحدة في الشرق الأوسط والتي حاولت احتكار عملية التسوية” .
ليس بوتين عدوًّا لإسرائيل ولا هو شريكٌ في محور المقاومة، فحتّى اليوم لم يعترض مثلاً بصواريخه على كلِّ الهجمات التي شنّها الجيش الإسرائيلي على مواقع لإيران أو حزب الله في سورية ولم يسمح للجيش السوري باستخدام منظومة الصواريخ S300. لكنَّ الرئيس الروسي أدرك منذ اللحظة الأولى للحرب على غزّة، أنّ الغربَ الأطلسي انزلق إلى فخ يُشبه فِخاخ أفغانستان أو فيتنام وغيرِهما، وأنّه لا بُدّ من استغلال ذلك بذكاء دبلوماسيّ دقيق.
وفي لعبة التوازنات الدقيقة هذه، التي يُمارسِها الآن، فإنّ بوتين الذي قدّم لنتنياهو تعازيّه بمقتل الضبّاط والجنود في طوفان الأقصى، سُرعان ما استقبل وفدًا من حركة حماس في أوج الحرب، وهي الحركة التي باتت موسومة بالإرهاب في الكثير من الدول الغربيّة.
ثمّ في أوج الحرب أيضًا خرق بوتين العقوبات الدوليّة المفروضة عليه، وتجاهل مذكِّرةَ الاعتقال، وذهب إلى بكين يُجّدد تحالفَه الاستراتيجي معها، فالصين هي الشريك الأول لموسكو وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما في العام الماضي أكثر من 190 مليار دولار. ثم زار أمام كاميرات العالم وأمام القواعد العسكريّة الأميركية في المنطقة، كلاّ من السعودية والامارات العربيّة المتحدة، واستقبل في السابع من الشهر الجاري الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. ويُحكى عن سعيّ روسي جاد لمساعدة الرياض بإقامة منشآت نووّية لأهداف سلمية وعلميّة واقتصاديّة.
في الرابع عشر من الشهر الحالي، عقد الرئيس الروسي مؤتمرَه السنوي المُعتاد مع الصحافة الروسية، لتقديم حصيلة العام المنصرم من رئاسته، وهو مؤتمرٌ تجنّبه في العام الماضي بسبب وطأة حرب أوكرانيا وبعد الزلزال الذي أحدثه تمرّد فاغنر على القيادة الروسية والذي انتهى بمقتل قائد هذه القوات يفغيني بريغوجين بتحطّم طائرتِه…
هذا العام يبدو سيّدُ الكرملين أكثر راحة في تلك الحرب، ولكن أيضًا في السياسة الدوليّة. وهو يتوجّه براحة كبيرة إلى تجديد ولايته قريبا والتي ستمتد حتى العام 2030.
سمح “زلزال” حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي، للرئيس الروسي بالتقدم على الجبهة الأوكرانية بعيدًا عن إعلام الأطلسي ومساعداته العسكريّة، تقدّمت قواتُه على مختلف الجبهات وفق ما أعلن قبل أيام، وقد رأينا أنَّه بعد الهجمات القاسية التي تعرّضت لها المدينةُ الصناعية الهامة في دونتسك، والتقدّم صوب باخموت، وصلت الهجمات الروسيّة في نهاية الشهر الماضي إلى قلب العاصمة الأوكرانية، وتجدّدت في منتصف الشهر الحالي، وقيل إنّ الخسائر البشرية للجيش الأوكراني كانت الأكبر منذ بداية الحرب.
تزامن هذا التقدّم العسكريّ مع رفض الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس الأميركي تجديد المساعدات المالية لأوكرانيا والبالغة 110 مليار دولار، كذلك فانَّ هنغاريا كانت في الفترة عينها قد أعاقت تقديمَ أكثرَ من 50 مليارًا موعودة من الاتحاد الأوروبي لكييف. وهو ما دفع الرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى رفع الصوت في أميركا وأوروبا قائلا: إنَّ كلّ تأخير بهذه المساعدات يعني تقديم هديّة مجانية لبوتين. ولا ننسى ان مقاتلات أف 16 الأميركية الموعودة لأوكرانيا منذ بداية الحرب قبل نحو عامين، لم تصل بعد، بينما موسكو ضاعفت ميزانيَتَها العسكرية بنسبة سبعين بالمئة للعام المقبل. إضافة الى زيادةٍ بلغت 15 بالمئة في عدد ضباط وجنود القوَّات الروسيّة، بحيث يصل العدد إلى أكثر من مليونين ومئتين ألف مقاتل.
كشف بوتين في خطابه الأخير للأمّة عبر الصحافة : أنّ الحاجات إلى ما وصفَه ب ” الثالوث النوويّ” قد ازدادت، وتحدَّث عن مشاركته في تدشين غواصات، وعن أنَّ المنشآت والمؤسسات العسكرية الروسية قامت في نهاية 2023 بتنفيذ 98 بالمئة من الطلبات ، وأنَّه يتمُّ وضعُ احتياطي للجيش والأسطول من خلال الأسلحة ذات الآفاق المستقبلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. كذلك كشف الرئيس الروسي أنَّ صناعة الدبابات والمدرَّعات ازدادت ثلاثة أضعاف، وزاد إنتاج الذخائر بنحو ثلاث مرات، وبعضها بـ 7 مرات.
وفيما كان بوتين يرفع جهوزية الحرب في اوكرانيا، كان يواصل اتصالاته مع حماس، ومع الرئيس محمود عباس، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ومع السعوديّين، والاماراتيّين، والمصريّين، والقطريّين، ولكن أيضّا مع إسرائيل وحزب الله .
يقول مارك كايتز المتخصّص بالسياسة الخارجيّة الروسيّة في مجلة” فورين بوليسي” الأميركيّة إنَّ استراتيجية موسكو منذ عهد القياصرة تؤكد على ضرورة عدم الوقوف مع طرف ضد طرف آخر، ولكن ترك الجميع يتواجهون. ويبدو أنّه كلّما طالت حربُ غزّة، ربحت روسيا أكثر في معركة أوكرانيا ضدَّ الغرب.
بين دول الرُباعية الدولية حول الشرق الأوسط، فإنّ روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على التحدّث إلى كلّ المتصارعين، وهي جدّدت مع الصين رفعَ شعار حلّ الدولتين، وصوَّتت رغم انزعاج إسرائيل في مجلس الأمن على كلِّ قرارات وقفِ إطلاق النار، وقال الرئيس الروسي:” حين تنظر إلى عذابات الأطفال الغارقين بالدماء، تشتدُّ قبضتا يديك، وتنهمرُ الدموعُ من عينيك ” لا بل أن بوتين ذهب إلى حدِّ مقارنة ما يفعله الاحتلال في غزّة، بما فعلته ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
بوتين ليس عدوًّا لإسرائيل او اليهود، بل إن أكبر حاخامات روسيا كان قد قال عنه إنّه الرئيسُ الروسيُّ الأهم عبر التاريخ ليهود روسيا، ثمّ إنَّ نتنياهو نفسَه الذي زار موسكو أكثر من 10 مرات منذ العام 2015، لا يخاطب بوتين سوى ب “صديقي العزيز”. ولنتذكّر أنّ إسرائيل لم توافق على ارسال أسلحة إلى كييف ولا قبلت فرضَ عقوباتٍ على موسكو بعد اجتياح أوكرانيا. وهي رفضت مع بداية الحرب الحالية على غزة استقبال الرئيس الأوكراني فلودومير زيلنسكي ذي الأصلِ اليهوديّ والذي رغِبَ بزيارتها تضامُنًا.
ولذلك فإنَّ موقف بوتين من الحرب على غزَّة، ينطلق من رغبته الجامحة اليوم في تشويه صورة الأطلسي والقول بأنّه يُكيل بمكيالين.
يقول المركز الاستراتيجي الروسيّ للثقافات: “يُهدّد هذا التحوّل في الاهتمام من الأزمة الأوكرانية إلى الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية، بتقويض قدرة القوات المسلّحة الأوكرانية على مواصلة الحملة العسكرية ضدّ روسيا. ويأتي ذلك في وقت كادت القوات الأوكرانية تتعافى من الهجمات الفاشلة، والخسائر الأخيرة التي بلغت عشرات الآلاف. ولذلك، فإنَّ رفض إسرائيل طلب زيلينسكي للقاء نتنياهو ليس مُهينًا فحسب، بل يُمثّل أيضًا بداية َنهايةِ الاهتمام الغربيّ بأوكرانيا”.
لا شكّ في أنّ بوتين نجح عبر موقفه هذا المطالب بوقف الحرب وتحميل إسرائيل وأميركا مسؤوليةَ استمرارِها ، في جذب تعاطف دول المنطقة وإعادة تلميع صورة روسيا في أوساط الرأي العام العربيّ، ولكن أيضًا بعض الراي العام العالميّ المناهض لقتل الأطفال ولموقف عددٍ من دول الأطلسي.
نعم افاد بوتين جدًا من الحرب على غزة، ومن صمود الفصائل فيها ضد رغبات الغرب، وذلك لفرض شروطه في حرب أوكرانيا، وهو قال في خطابه الأخير في الرابع عشر من الشهر الجاري، إنَّ 486 ألف جندي جديد انضمّوا إلى القوات المُسلّحة الروسّية، وقال إنَّ الحلَّ الذي نُريده سيتم إمَّا بالتفاوض او الحرب وبعد تحقيق اهدافنا وهي القضاء على النازيّين في أوكرانيا، وتسليم سلاحهم. وهو يعني طبعا الجيشَ الاوكراني.
من منطلق استعادةِ قوّته هذه، فتح بوتين مع ذلك بابًا للتفاوض مع واشنطن، فأعرب عن أمله بتوقيع اتفاقٍ معها لتبادل السجناء، وقال إنَّ الامر ليس سهلاً لكنَّنا في نهاية المطاف نفهم على بعضنا نحن وشركائُنا الاميركيون.
ورغم الوضع الاقتصادي الروسي الذي عاني من الهبوط في العامين الماضيين، فإنَّ بوتين أكَّد أنَّ هذا الناتج القومي الخام سيرتفع هذا العام بنسبة 3،5 بالمئة.
لم يتردد سيّدُ الكرملين في الحديث عن كارثة كُبرى في غزّة، وذلك ليصل إلى نتيجة مفادُها على حدّ تعبيره أنَّ الفرق كبيرٌ بين تصّرف إسرائيل وأميركا في غزّة، وبين تصرّف الجيش الروسي في أوكرانيا. وقال إنَّ الغرب عبّر عن ادانة انتقائية، وإنّه شريكٌ في تصفية المدنيين الفلسطنيّين.
ختم بوتين بلهجة الواثق من نفسه، إنَّ الغرب لم يتخلَّ عن أهدافه العدوانية في أوكرانيا، ونحن أيضًا لن نتخلّى عن اهداف عمليتنا العسكرية.
يبقى السؤال الآن، هل سينجح بوتين ونظيرُه الصينيّ وبعضُ زُعماء المنطقة لاحقا، وبعد يقينهم بفشل الدعم الغربيّ لإسرائيل، في فرض مؤتمر دوليّ لإعادة طرح القضيّة الفلسطينيّة، وإيجاد حلّ سياسيّ عادل؟
رُبما، لكنَّ هذا يتطلّب قبلَ كلّ شيء اقتناع الغرب بأنَّ البطش الإسرائيلي المدعومَ غربيًا ما عاد ينفع، وأنَّ الشباب الفلسطينيَّ مقتنع أكثرَ من أيّ وقت مضى بأنَّ ما اخذ بالقوّة لا يُسترد الَّا بالقوّة، ما لم تقم دولة فلسطينية حُرة كأي دولة في العالم…. وهذا يتطلّب كذلك موقفًا عربيًّا موحَّدًا وحازِمًا حيال إقامة دولةٍ فلسطينيّة.
في نهاية الأمر فإنَّ بوتين نجح على الأقل حتّى الآن في تحويل الأنظار ضدّه في أوكرانيا إلى ضدّ الغرب في فلسطين.