كيسنجر دعم تسليم لبنان إلى سورية واغتيال جنبلاط
كيسنجر دعم تسليم لبنان إلى سورية واغتيال جنبلاط
في كتاب نادر بعنوان “لبنان وحرب التسوية”، صادر عن مركز الدراسات الاشتراكية في الحزب التقدمي الاشتراكي في نيسان/ابريل 1977، نجد مجموعة من المقالات الجريئة بقلم كمال جنبلاط الى حد الانتحار في توصيف الأزمة اللبنانية والحرب والعلاقة مع سوريا حافظ الأسد. هذه المقالات كتبها جنبلاط في أوج الدخول السوري الى لبنان (1976) . واستخدم فيها عبارات وصلت الى حد تخوين الرئيس السوري حافظ الأسد على المستوى القومي وتسليط الضوء على طائفته العلوية في مشروعه السياسي. وكانت تلك من الخطوط الحمر التي تمثل مغامرة لم يبلغها أي مسؤول لبناني قبل خروج الجيش السوري من لبنان.
ففي مقال يحمل عنوان “جريمة الإخوان”، يروي كمال جنبلاط الوضع قبل وبعد آخر لقاء جمعه مع حافظ الأسد. يقول: ”حين استولى الوطنيون على المتين وعينطورة وترشيش (المتن)، وحاولوا شقَّ طريقهم نزولاً لكي يتلاقوا مع القوى الوطنية الزاحفة باتجاه بيت مري، قامت قيامة حافظ الأسد وربعِه، وتحرّك الجيش السوري لمنع استمرار الهجوم وللحؤول دون انكسار القوى الانعزالية، وكانت جلستنا هي الجلسة الأخيرة مع حافظ الأسد وبعضِ أعوانه في دمشق، وظهرت بوضوح اللعبة التي يلعبها النظام السوري في دعم التكافؤ القتالي في لبنان دون تمكين أحد الفريقين من السيطرة على الآخر…أي الحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية من جهة والجبهة الوطنية اللُبنانية التي تضم اليمن المسيحي اللُبناني من جهة ثانية.
يضيف جنبلاط: هكذا لعب النظام السوري الحاكم في دمشق أوسخ عملية ابتزاز للقوى اللبنانية.. لانَّ المهم كان عند حافظ الأسد واعوانه هو ان يخرج من معركة لبنان حاملا بيده حلا سياسيًّا للبنان ترضى عنه وتؤيده اوروبا المسيحية وترضى عنه وتؤيده الولايات المتحدة الاميركية وتطور الوضع بالسوريين او بحلفائهم على صعيد تنفيذ المؤامرة من أميركيين واسرائيليين إلى التوهم بأنَّ سوريا قد تخرج من هذه المعركة وقد وضعت يدها على قسم غير يسير من الارض اللبنانية” (…).
يخلص كمال جنبلاط للقول:” سنبقى في هذه الدوامة من غلاظة اليد البعثية السورية الى أن يتفق جميع اللبنانيين على التخلص من هذا الضيف الثقيل. فقد تلاقى السوريون مع الانعزاليين الطائفيين في محاولة منع الحركة الوطنية من النجاح بتبديل النظام السياسي بالشكل الذي ترتئيه ويوجبه المنطق، وقد تحول نظام حافظ الأسد إلى عداوة ضارية ليس فقط للقضية القومية المتمثلة بشعب فلسطين وقيادته، بل ايضا بالنسبة لشعب لبنان الوطني”.
كانت نقمة كمال جنبلاط آنذاك قد وصلت الى ذروتها ضد الأسد الذي منعه من استكمال سيطرة الحركة الوطنية عسكريا على كامل لبنان وتغيير النظام فيه. بينما كانت نظرة حافظ الأسد أنه لا يُريد ان يرتمي المسيحيون في أحضان إسرائيل، كما أنه كان على خصومة شديدة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.
لكن ربما كان خطأ كمال جنبلاط آنذاك، هو في التقليل من أهمية البعد الاستراتيجي لرغبة الاسد بدخول لبنان خصوصًا بعد كامب دافيد وحاجة أميركا لتحييد سوريا، وهذا ما أدى الى الاتفاق الضمني الكبير بين الأسد ووزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر بعد عامين على الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973، ورغبة الاميركيين بكسب الأسد إلى جانبهم واستكمال كامب دافيد باتفاقيات عربية اسرائيلية اخرى. ولذلك فقد باع الاميركيون لبنان آنذاك بثمن بخس، ونجحوا في احداث أكثر من صدام وتطويق الحركة الوطنية وياسر عرفات. فكما يقول فاروق الشرع النائب السابق للرئيس السوري في كتابه القيّم “الرواية المفقودة”: “كان الرئيس حافظ الأسد يفكّر استراتيجيا، ولا يمثل التكتيك لديه سوى حركة لإحدى القطع على رقعة الشطرنج يجب ان تخدم الهدف الاستراتيجي”.
لا داعي للتذكير بأن لبنان كان آنذاك بيدقا على رقعة شطرنج كبيرة لاعبوها الاساسيون هم اميركا واسرائيل من جهة وسوريا من جهة ثانية إضافة الى دول أخرى اقل تأثيرًا. الواقع أنَّ ما كان سراً دفيناً حتى سنوات قليلة، كشفته الوثائق الرسمية الاميركية والسورية. ففي كتابها الزاخر بوثائق القصر الرئاسي “وثيقة وطن” (وهذه من المرات النادرة التي يفتح فيها السوريون ارشيفهم)، كشفت د. بثينة شعبان المستشارة السياسية (وهي كانت المترجمة الرسمية لحافظ الأسد ثم المستشارة السياسية لنجله الرئيس بشار الأسد)، أنَّ ثمة اتفاقا كبيرا حصل آنذاك بين الأسد وهنري كيسنجر للدخول الى لبنان. وهي سعت فقط لنفي ان يكون الاتفاق قد شمل أيضا اسرائيل.
واذ تمهِّد بثينة شعبان لكشف الأسرار بالإشارة إلى انَّ حافظ الأسد سعى لاحتواء الجبهة اللبنانية اليمنية، واستقبل في 6 كانون الأول/ ديسمبر 1975 رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، تقول إنَّ الأسد “حاول بداية فصم عرى التحالف الماروني الاسرائيلي بالوسائل العسكرية” ثم في العام 1989 “وقّع نواب المجلس اللبناني المجتمعون في مدينة الطائف السعودية على وثيقة اصلاح سياسي انهت خمسة عشر عاما من الحرب الأهلية، استند اتفاق الطائف الى الوثيقة الدستورية التي كان الأسد قد خرج بها عام 1976”. أي اننا نفهم من كلام شعبان ان اتفاق الطائف (الذي تم التوصل اليه بعد 12 عاما على اغتيال جنبلاط) أصله سوري، وذلك فيما كان كمال جنبلاط في العام 1976 قد انتقد الوثيقة الدستورية معتبرا انها تكرس الطائفية وكذلك رفضها الرئيس سليمان فرنجية.
هنا تعود بثينة شعبان إلى آخر اجتماع بين الأسد وكمال جنبلاط فتقول:”حاول حافظ الأسد في اجتماع عاصف دام ثماني ساعات ونصف الساعة في السابع والعشرين من آذار/مارس اقناع جنبلاط بالعدول عن حماسته الثورية لمصلحة ايجاد حل سياسي متوازن، وقد حذّره من أنَّ انتصارًا عسكريًّا شاملا للحركة الوطنية ومنظمة التحرير قد يستدعي ردود فعل اقليمية ودولية خطيرة بما فيها غزو اسرائيلي مدعوم أميركيا للبنان. كما أنه نبّه جنبلاط إلى أنَّ لا طرف في لبنان يستطيع الغاء الطرف الآخر تمامًا، وانَّ قواته لن تستطيع ذبح كلَّ مسيحيي لبنان، بل ستدفع افعالُه الى تقسيم لبنان. وبعد اقل من اسبوع على لقائهما، شنّت قوات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، هجوما واسعا على قرى الشطر المسيحي من جبل لبنان وفي محاور بيروت، وباتت الكتائب وحلفاؤها على وشك الهزيمة”.
هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الحركة الوطنية كانت تضم أيضًا في صفوفها الكثير من المسيحيين المحسوبين على التيار الوطني اليساري او القومي. لا بل أن َّقادة أحزاب كبيرة من الشيوعي او القومي السوري كانوا مسيحيين.
تروي بثينة شعبان الأمور التالية بين حافظ الأسد وهنري كيسنجر ثعلب سياسة الخطوة خطوة الأميركية: طلب كينسجر من (ريتشارد) مورفي ( السفير الأميركي) الاشادة بدور سوريا البناء والحذر في تحقيق وقف اطلاق النار وفي وضع اسس الحل السياسي في لبنان. أرسل رسالة شفهية في 29 آذار/مارس بواسطة القائم بالأعمال الأميركي في دمشق روبرت بيللترو رحب فيها بالوثيقة الدستورية التي توصلت اليها سوريا ووقف إطلاق النار الذي تبعها. أبرق الى الاسد نافيا الكذبة الفاضحة والخبيثة التي تقول ان (السفير دين) براون حث جنبلاط على مواصلة القتال. ختم كيسنجر البرقية بتأكيده ثقته الكاملة بأن الرئيس الأسد لا يمكن تضليله بمثل هذه المناورات الجنبلاطية.
مورفي نقل الى الرئيس الأسد مرة ثانية تقدير الرئيس الأميركي (جيرالد) فورد للطريقة المسؤولة التي تعاملت بها سوريا مع الوضع في لبنان خلال الأشهر الماضية.
صحيح ان بثينة شعبان، تنقل أيضا في كل ما كتبت، الحذر الأميركي من اي تدخل عسكري مباشر الى لبنان وتهديد اسرائيل، لكنها هي نفسها تكشف انه بعد دخول وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة الصاعقة (التابعين آنذاك لسوريا) الى بيروت والسيطرة في اقل من اسبوع على مطار بيروت الدولي وموانىء المدينة، فانَّ مستشار الأمن القومي الأميركي برينت سكوكرفت اعترف بالفوائد الآنية للتدخل السوري، لكنه حذر الرئيس فورد من أن سوريا قد تتمكن خلال سنتين من تعزيز قوتها وفرض نفسها قوة مسيطرة على القوس الممتد من لبنان الى الأردن.
هنا بالضبط طُرح السؤال: كيف قبلت اسرائيل فعليا بالدخول العسكري السوري الى لبنان؟. بعض الجواب نجده في الكتاب نفسه للدكتورة شعبان حيث تروي التالي: “اقترح كيسنجر صيغة بارعة يمكن بها دخول القوات السورية لاعادة الاستقرار الى لبنان دون حصول رد فعل اسرائيلي. ففي الثالث والعشرين من آذار/مارس، تلقى كيسنجر أخيرا ردا من (إسحاق) رابين على تساؤلاته، اكد فيه أنه في حال حصول تدخل عسكري سوري، فان القوات الاسرائيلية ستحتل بصمت مواقع استراتيجية في جنوب لبنان، وفي اليوم التالي حددت مذكرة اسرائيلية ارسلت الى واشنطن انواع الاسلحة والقوات السورية التي لا تقبل اسرائيل وجودها في لبنان، وخاصة انتشار وحدات سورية اكثر من عديد لواء واحد (بما في ذلك القوات الموجودة سابقا في لبنان)، كما ورد في المذكرة ان اسرائيل لن تتساهل مع تقدم اية قوات سورية اكثر من 10 كيلومترات جنوب طريق بيروت – دمشق”. هذا هو الاتفاق الذي عُرف تاريخياً بـ”اتفاق الخطوط الحمر”، واذ تؤكد شعبان ان “الأسد رفض كل الخطوط الاسرائيلية الحمر”، تعود للقول ان كيسنجر أرسل في 14 نيسان/أبريل برقيتين الى دمشق، قام مورفي بقراءتهما للمستشار السياسي للرئيس الأسد: البرقية الأولى:”الحكومة الاسرائيلية أبلغت الحكومة الاميركية انها التزمت الصمت حيال دخول القوات السورية الى لبنان…”. البرقية الثانية:”لقد ضغطنا خلال الايام الماضية بشدة على الاسرائيليين ليمتنعوا عن اصدار اي رد فعل تجاه ادخال قوات سورية وعتاد ثقيل” إلى لبنان.
وهكذا حصل الدخول السوري الى لبنان بتفاهم مع الاميركيين وعدم تدخّل إسرائيلي… وبعد فترة وجيزة تم اغتيال قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط عام 77 لتنطوي صفحة من اليسار اللبناني المدعوم سوفياتيًّا وصفحة كبير من الحُلُم اليساري بتغيير النظام اللُبناني الطائفي. لكن اليمين المسيحي الذي انفرجت اساريرُه مع وقف السوريين لزحف اليسار والفلسطينيين، سُرعان ما اصطدموا هم أيضًا بالجيش السوري الذي احكم قبضته تماما على الأمن والسياسة في لُبنان وصار يُعين ويخلع الرؤساء والوزراء والنواب وكبار الموظفين.
إنَّ القارئ للفكر السياسي والانساني والروحاني الموسوعي عند كمال جنبلاط، والمتابع بدقة لسياسة واستراتيجية وخطابات حافظ الأسد يصل اليوم الى نتيجة مأساوية مفادها، ان الرجلين كانا قادرين على لعب دور كبير فعلا في الشرق الأوسط والتأسيس لمشروع سياسي جامع بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لو تفاهما، لكن رغبة الأسد في تمكين سوريا من دور محوري في الشرق الأوسط جعله يضع السيطرة على لبنان نصب عينيه (وهذا ما نفهم تفاصيله أيضاً من كتاب نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي “أجمل التاريخ كان غداً”) وجعله يتفاهم مع الأميركيين حتى لو ان الأسد لم يكن راغبا بالوحدة مع لبنان وفق ما قالها لقادة الجبهة اللبنانية وما كشفته بثينة شعبان. بالمقابل، فان حلم كمال جنبلاط بسيطرة الحركة الوطنية على لبنان واستعادة دور شخصي كان يعتبره طبيعيا، كانا يتناقضان ليس فقط مع رغبات الأسد، ولكن أيضا مع واشنطن التي لم ولن تقبل يوما بأن يصبح لبنان بلدا يساريا اشتراكيا وقاعدة للنضال ضد اسرائيل. وهذا ما جعل جنبلاط يمضي في مشروعه حتى الشهادة. كانت نظرتا الأسد وجنبلاط متناقضتين تماما لمفاهيم الديمقراطية والحريات والاستقلال، لكن ماذا لو أنهما اتفقا، هل كانا قادرين فعلا على تغيير وجه المنطقة وانقاذ بلديهما؟ السؤال سيبقى سؤالا، لكن الاكيد ان أميركا افادت جدا من صراعهما، وفلسطين خسرت، واليسار ضُرب في الصميم، ولبنان خسر، واسرائيل ارتاحت، فبعد اغتيال كمال جنبلاط بخمس سنوات غزت اسرائيل لبنان وجاءت برئيس جمهورية وضربت القوات السورية وقضت على اهم دعم عسكري للقضية الفلسطينية. والخسارة شملت طبعا سوريا ولبنان ولو بنسب واوقات متفاوتة..
لو دقّقنا قليلاُ فيما حصل آنذاك نفهم أن الكثير مما حصل كان نتيجة اللعبة الخبيثة لهنري كيسنجر ولدهائه في دق اسافين بين مصر السادات وسوريا الأسد وبين لُبنان وسورية، وهذا ما أفادت منه جدًا إسرائيل.