أحقّا في لبنان يُقال القاضي لا الفاسد؟

أحقّا في لُبنان يقال القاضي لا الفاسد؟
رنا اسكندر
لستُ متخصّصة بالشأن القضائي اللُبناني، وليست لي دراية عميقة بأوضاع لُبنان، فأنا منذ هاجرتُ لأسباب كثيرة، اضطررت لترسيخ أقدامي في بلاد المهجر عبر جهد استثنائي وذلك لأنّنا في ألمانيا لا نؤمن بالوساطات، وليس عندنا زعماء يفتحون لنا أبواب الوظائف مقابل الولاء الأعمى لهم، وهو الولاء الذي يقتلُ أتباعَه والوطن في نهاية المطاف، وإنّما يصلُ الانسان هنا بجهده، وعرق جبينه، وتشغيل عقله، واحترام قوانين ومبادئ هذه البلاد التي عرفت كيف تنسى ويلاتِ الحربَ، وتَبني نفسَها بنفسها لتصل إلى مصاف الدول الأولى في العالم.
أقول ذلك، لأنّي اتابع من بعيد، ونظرًا لجذوري اللُبنانيّة التي أعتزّ بها بالرغم من كلّ ما ألمّ بالوطن وبعائلتي من مصائب، ويلاتِ القضاء في لُبنان، فأسمعُ أنَّ قاضيًّا كان مُكلّفًا بالتحقيق في تفجير مرفأ بيروت، كُفّت يدُه، وقاضيةً تُعزل، وثالثًا يُنفى الى مكان بعيد لرفضه الخضوع واثبات الولاء لهذا الزعيم أو ذاك القائد، ناهيك عن قضاة اغتيلوا وهم في قوس المحكمة.
لا ادري اذا كان القاضي المُبعد أو المعزول أو المكفوفة يده على حقّ أم لا، فانا لم أتابع حيثيات ما يجري، لكن غالبًا ما أجاهدُ في البحث عن مسؤولٍ سياسيٍّ أو حزبيّ أو اقتصاديّ أو مافياويّ أُدخلَ السجن، فأعود من بحثي خاليةَ الوفاض، وأستغربُ كما رفاقي هنا، كيف أن بلدًا صار في أعلى قائمة الدول المنخورة بالفساد عالميًّا، لم ينجح قضاتُه بزج فاسدٍ واحد بالسجن، أو بتجريمه.
بالرغم من اجتهادي في التجوال بين أروقة قصر العدل في ألمانيا وفي زوايا مؤسّساته المستقلة محاولةً الانضمام الكُلّي و المتطرّف في بعض المرّات إلى ثقافة العدالة وتعزيز حريّتي الداخليّة، الاّ أن مغريات المهنة لم تمنعني من المزاوجة بين التحصّن بالعدالة مرّة والانزلاق مرّة أخرى الى ما تمليه النفس البشرّية من ميلٍ صوب توسيع هامش الحريّة في سياق الحكم، فالقوانين وُلدت لكي تجعل حياة الناس أكثر عدالة ولتجعل الأوطان أكثر طمأنينة وجمالا، لا لتدفع الناس إلى الاحتيال على العدالة لخرق القوانين وتدمير دولهم.
مكّنتني هذه التجربة التي فيها بعضٌ من لياقة اللُبناني وكثيرٌ من صرامة القانون الأوروبي، من بناء علاقات أعمق في الوسط القانوني مع كُثيرين من المهتمين ببناء جسور بين الغرب و الشرق، وذلك بالرغم من أنّ الغالبيّة بينهم هم أكثر بياضاً منّي أو يتحدرون من نسبٍ واحد غير مختلط، فقابلت الغضبَ ببسمة عبور الإنسان إلى الإنسان، وطالعني بعضهم بابتسامة النجاة فبادلته بمثلها.
صحيح أن التجارب لا تحمي من مآزق لم أكن أتوقّعها لأنّني لا أُجيد الكتابة على هامش الملفّات ولا وضع عباراتي بين هلالين، لكنّها حفّزت قدراتي على اختلاق الحلول. قد تعترض الواحدَ منّا في بلادنا الجديدة هذه التي فتحت لنا أبواب العِلم والنجاح بقدر ما سعينا اليهما، بعض السلبيّة المُبطّنة والتي لم أُحسِن تعلّمها، لكنّ إصراري من جهة، وثقتي بوجود مؤسسات دولة يحكمها القانون لا دولة قانون فحسب من جهة ثانية، كانا يوفّران لي الحلول العادلة في بلد يكاد يلامس حدود المبالغة في العمل الإداري والبيروقراطي..
المقارنة مع لُبنان
أكاد أضحك على نفسي، حين أقارن بعض هذه الصعوبات في ألمانيا، بما عليه حالُ لُبنان وقضائه. غالبًا ما أحاول أن افهم هذا الواقع اللبناني المؤلم والمُخزي في جوانب عدالته، وأعجز عن ذلك، فكيف للُبنان الذي صدّر الثقافة القانونيّة إلى الكثير من دول العالم من دستوريّين واخصائيّين وقضاة شرفاء واداريين، أن ينزلق الى هذا الدرك من ظُلم الساسة للقضاة، وخنوع القضاء لظلمهم، مع بعض الاستثناءات المضيئة طبعًا؟
أهي ثقافةُ التبعية العمياء التي حكمت وطن الأرز منذ فجر التاريخ، فترسّخت في قلوب الجميع حتّى ظنّوا أنّ لا فكاك منها؟ أم هو الترهيب المُبطّن الآتي من الآخر أو من عمق النفس البشرية بعد جولات كثيرة من الحروب والويلات؟ أم هي خزعبلات الدساتير والقوانين نفسها وفي كيفيّة صياغتها بحيث تحتمل كلّ الأوجه، بما في ذلك ما يناقضها تمامًا؟
لا يمرّ النص القانوني مثلاً في أروقة قصر العدل في ألمانيا، ذات البنية الفدرالية قبل خضوعه لهيئة مختصّة بالنظر في القوانين المستحدثة، تشبه مجلس الدولة في فرنسا، علاوة على ذلك يخضع المشرّعون بشكل دائم، و أحياناً كثيرة من تلقاء أنفسهم، لدوراتٍ تمكّنهم من تطوير الصياغة التشريعية. يفتقد لبنان لمثل هذه المبادرات، أتجنّب الغوص في تفاصيلها لعدم مقاربتي كما قلتُ أعلاه للتجربة على أرض الواقع، لكن لا شكَّ في أنّ الأزمات المتتاليّة أساسية في هذا الإطار.
يضيع توزيع المسؤوليات في لبنان بين المشرّع والمنفّذ؛ ليت قواميس القانون، بما فيها من مصطلحات لغوية تزخر بالمعاني الإنسانية السامية وتلفظ ما يجافي الأخوّة والسلام و تهدم الجدران الإسمنتية التي تتصدى لأحلام عذراء في بناء جسور بين اللبنانيين. تصاغ الكثير من النصوص برذاذ الطائفية المقيتة، تشوبها التبعية لا المبدأ بعيدةً عن التجربة الديمقراطية الحَقّة، منسوجة على قياس جماعات وغبّ الطلب.
مهما اجتهد المشرّع يبقى الإنسان الأساس في بناء العدالة إذا ما طبّقها على نفسه قبل غيره وأذعن لروح القوانين قبل نصوصها الجامدة، لا أن يجتهد في تأويل النصوص بما تقتضي الحاجة. يلجأ المُفسّر إلى عبارة روح القانون كلّما عجز النص عن تقديم الحلّ الوافي بغية تفسير نيّة المشرّع إلّا أنَّ الغلو في ذلك يدلّ إما على تعثّر في صياغة النص القانوني أو على عدم مواكبة المشرع للضرورات الاجتماعية المتسارعة والتي تقتضي نشاطًا دائمًا، واستمرارية في تعديل وصياغة القوانين. تتجلّى النتائج مع الوقت وبالاستمرارية، تماماً مثل نبتة الخيزران التي بالكاد يمكن رؤيتها لمدة خمس سنوات، لأنّها تشكّل أنظمة جذر واسعة تحت الأرض، ثم تظهر فوق الأرض بطول ثلاثة أمتار في غضون ستة أسابيع …
لن يتحقّق الاستقلال الفعلي للقضاء اللبناني إلّا باستمرارية معارك خاضها غيارى كُثُر وتشبّثوا في وجه الذهنيّات السياسية المتوارثة التي تحيي الوطن متى أرادت وتجعله يرقد في ظلال التناحر الطائفيّ إذا ما اقتضت الحاجة. إلّا أنَّ مبادرة مماثلة منوطة بالمجلس النيابي لتدريب المسؤولين الإداريين على أصول صياغة النص القانوني بعيداً عن البلاغة والحشو وإنّما بشكل واضح و متماسك، بُنية تحتية تبدأ بوجود نيّة تشريعية صحيحة مع إضافة شيء من الثقافة الإنسانية بصياغة قانونية مبسّطة لا تؤذي متانة النصّ و قابليته للحياة.
ولأنّ الشعب مصدر السلطات، فهو يبقى المسؤول الأول عمّا يحدث لأنه لم يحرّك عروش السياسيين، وقبِل الهوان وسمح للفاسدين بالاستخفاف بطاقاته وبالشدّ بأعناقه صعوداً حتى عَلَت فوق سقف القانون.
تظلّ استقلالية القضاء فضيلة على رأس دساتير العالم لكنّها أيضاً حتى في أكثر البلاد تحضّراً تبقى حبراً على ورق ورهنًا للمزايدات كيفما تدّعي الحاجة إذا ما غابت المؤسّسات التي تضمن مراقبة إدارة الملفّات وتنفيذ القوانين.
لن يحميّ القضاء في لُبنان، الاّ القضاة أنفسهم والناس من خلفهم والاعلام النزيه يواكبُهم، وحين ينهار القضاء تُصبح الدولة فاشلة بامتياز، وأخشى أن يكون هذا واقع لُبنان حاليًّا بالرغم من ثروته الهائلة في مجال التشريع والدساتير والقوانين.
الكاتب: رنا اسكندر محقّق عدلي في محاكم ألمانيا